في تاريخ نقابة الصحفيين، وتاريخ الدفاع عن حرية الصحافة كثير من المعارك المهمة، التي تجلت فيها قدرة الشعب المصري وفهم الصحفيين المصريين لدور الصحافة ومكانتها.
28 يوليو 1951م، قدّم النائب الوفدي "أسطفان باسيلي" ثلاثة مشاريع لمجلس النواب تسمح بمعاقبة الصحف بالإلغاء والتعطيل الإداري، وتسريع إجراءات محاكمة الصحفيين.
في 27 مايو 1995م، صدر بليلٍ عن مجلس الشعب القانون (93) لسنة 1995م، وتضمن تعديلات مثّلت عدوانًا وقيودًا على حرية الصحافة أطلق عليها تعديلات حماية الفساد.
وفي الخامس والعشرين من مارس 1909م، أعادت نظارة بطرس غالي العمل بقانون المطبوعات الصادر عام 1881م، الذي كان معلقًا منذ عام 1894م، وكانت تلك الخطوة تعني العودة إلى مصادرة الصحف، وفرض القيود المالية على التراخيص.
قالت الوزارة في قرارها مبررة عودة القانون: "إن الحكومة لم تنفذ منذ سنة 1894م، قانون المطبوعات. وقد أدى تعطيل القانون إلى أن الجرائد لم تزد إلا تماديًا في التطرف والخروج عن الحدود. وهذه الحالة قد أضرت بمصالح البلاد ضررًا بليغًا، فقد قرر مجلس النظار أن يعمل بأحكام قانون المطبوعات فيما يتعلق منها بنشر الجرائد في القطر".
المثير أن إصدار قانون باسيلي، أو قانون المطبوعات، أو القانون (93) رغم مرور السنوات الفاصلة لم تذهب بعيدًا عن فرض الوصاية على الشعب بزعم الحماية أو وقاية النظام الاجتماعي، أو التمادي في النقد، لكن اللافت أن الشعب المصري أدرك في كل هذه الحالات أن حريته هي المستهدفة، وأن وقف النقد وحماية الفساد هو المطلوب!!
لكن ونحن نحتفل في العاشر من يونيو من كل عام بيوم الصحفي، الذي يوافق عقد الجمعية العمومية، التي تصدت على مدى عام كامل لرفض هذا القانون نزداد يقينًا أننا أمام حلقات تستكمل مسيرة طويلة من الدفاع عن حرية الصحافة، التي أكدت المظاهرة الشعبية في 1909م، أنها ولدت في حماية الشعب المصري قبل أن تعرف المهنة التنظيم النقابي، الذي قام رسميًا في مارس عام ١٩٤١م.. يعني أدرك الشعب المصري مبكرًا أن حرية الصحافة هي أحدي الحريات العامة، وأن الاعتداء عليها هو اعتداء على أحد حقوقه.
تعديلات باسيلي أثارت عاصفة من الاحتجاجات، تضامنت فيها كل الصحف وكل الأحزاب السياسية، وكل النقابات المهنية والعمالية، بما في ذلك المؤيدة للحكومة التي كانت قائمة، ونشرت صحيفة الحزب الحاكم قائمة شرف بالوزراء، الذين يعارضون هذه التشريعات، خلت من اسم رئيس الحكومة، وسكرتير عام الحزب الحاكم، وقائمة سوداء اقتصرت على اسم واحد هو اسم «أسطفان باسيلى».. ولم تهدأ العاصفة إلا بعد أن سحب مقترحاته بعد أن دعت النقابة إلى عقد جمعية عمومية طارئة كانت الأكبر وقتها، وبعد ثورة من الكتابات شارك فيها الشاب أحمد بهاء الدين في جريدة "اللواء الجديد"، وعبد الرحمن الخميسي، وفتحي رضوان، وروزا اليوسف، وإحسان عبد القدوس، وعشرات الصحفيين، وبعد أن دعت النقابة إلى احتجاب الصحف، وكتب كامل الشناوي مقاله الشهير قبلها بيوم واحد "مصر بلا صحافة"، كما دعت نقابة المحامين إلى اجتماع للنظر في شطب عضوية باسيلي، الذي كان يشغل موقع وكيل مجلس النقابة لأنه أساء لسمعة وكرامة المحامين، ولموقفه ضد الحريات.
لقد كانت هذه المعركة وتفاصيلها تستمد قوتها ومنطقها وقوة حجتها من ميراث قدمه الآباء والأجداد، بل وقدمه الشعب المصري دفاعًا عن حرية الصحافة، فقد أثار قرار مجلس النظار عام 1909م، سخط الرأي العام، واندلعت المظاهرات احتجاجًا على حرية الصحافة، وللمرة الأولى في مصر يخرج المواطنون في مظاهرة من أجل الصحافة. وكانت المظاهرة الأولى يوم 26 مارس، حيث اجتمع عدة آلاف من الشبان من طلبة المدارس والأزهر، ومن مختلف طوائف التجار. واجتمعوا في حديقة الجزيرة، وخطب الخطباء في الاحتجاج على إعادة قانون المطبوعات. وبعد أن انتهت الخطب سار المجتمعون في شوارع العاصمة، وانتهت المظاهرة في ميدان الأوبرا.
وتجددت المظاهرات يوم 31 مارس بدعوة من صحيفة "اللواء"، التي كان لها الدور الأكبر في حشد وتجييش الجماهير ضد القانون. وقد بلغ عدد المتظاهرين كما نُشر في الصحف وقتها إلى عشرة آلاف شخص من مختلف طبقات الشعب، أسفرت تلك المظاهرات عن القبض على بعض زعماء المظاهرة وقدموا إلى المحاكمة. فيما عُرفت وقتها بقضية الحرية، وصدر الحكم بحبس أحمد حلمي جد صلاح جاهين 6 شهور، وكفالة ألف قرش، وحبس باقي المتهمين ثلاثة شهور.
هذه الحلقات المتصلة من معارك الدفاع عن حرية الصحافة، التي بلغت ذروتها في معركة رفض القانون (93) لسنة 1995م، التي استمرت عامًا، وجمعية عمومية في حالة انعقاد مستمر تساند مجلس النقابة وقوى سياسية ورأي عام يتضامن، فقد تم عقد مؤتمر حاشد تحدث فيه قادة الأحزاب بمقر حزب الوفد حضره الآلاف، اكتظ بهم المقر والشوارع المحيطة به.
اللافت في هذه المعركة أن المسافات والمنافسات بين أعضاء الجمعية العمومية ورموزها تلاشت، فحضر المعارض ليشد أزر المفاوض، وظهر نقيب النقباء كامل زهيري ليساند إبراهيم نافع "نقيب الجسور" مع الدولة، وزاد من وعي الجمعية العمومية زيادة سقف المطالب، وظل جلال عارف حارسًا ومعبرًا عن هذا السقف، وصاح صلاح عيسى بشعاره الشهير خلال جلسات الجمعية العمومية "الحابسات الباقيات"، وهو يحذر من بعض المواد الملغومة في عروض الحل.
وأرسل سعيد سنبل رسالة من الخارج، وهو في رحلة علاج، يطالب بإسقاط التعديلات، ولم يتوقف مصطفى أمين في عموده اليومي بجريدة "الأخبار" عن كشف عوار هذه التعديلات.
وفي هذا اليوم كان تأثير الكاتب الكبير، محمد حسنين هيكل، حاضرًا.
فقبل الجمعية بيومين، تذكرت أنه وهو القيمة الكبيرة في المهنة، لم يصدر عنه أي رد فعل، فخاطبته يوم الخميس، وأنا عضو في مجلس النقابة برسالة عبر الفاكس على مكتبه نصها "جمعيتنا العمومية بعد غدٍ السبت.. ما زلنا ننتظر كلمتك".
فتواصل معي يوم الجمعة، وطلب حضوري إلى مكتبه، وقال "هذه كلمتي التي طلبتها، وأنت مؤتمن عليها"، وفعلًا ألقيتها أمام حشد الجمعية العمومية، ودوى تأثيرها خارج القاعة وإلى آفاق بعيدة خارجها، وأطلق في كلمته… "وأشهد آسفًا أن وقائع إعداد القانون كانت أقرب إلى أجواء ارتكاب جريمة منها إلى أجواء تشريع عقاب، وأنه يعكس أزمة سلطة شاخت في مواقعها". ووصلت الطلقة إلى جسد السلطة فرجَّته، وكان هذا بعدًا جديدًا في إدارة الأزمة.
بعد هذا اليوم الفارق تأكد للدولة أن هناك أزمة لا بد أن تتعامل معها، وظهر الدكتور أسامة الباز في الكواليس، وأجرى اتصالات مع قامات صحفية ونقابية، وبعد أن كان مبارك يعاند ويؤكد أن القانون صدر لينفذ، نشط ماراثون الاتصالات واللقاءات، وقالوا لا تجعلوا الرئيس طرفًا في الأزمة، بل اجعلوه حكمًا وطرفًا في الحل، والتقى مجلس النقابة جميع المسئولين من رئيس حكومة ووزراء ورئيسي مجلسي الشعب والشورى، كما التقى رئيس الجمهورية مرتين، الأولى في بداية الأزمة، والثانية قبيل نهايتها عندما تقدم أعضاء مجلس النقابة باستقالة جماعية، ثم انضم إليهم النقيب أمام الجمعية العمومية احتجاجًا على التفاف الدولة على تقديم حلول حقيقية أو مقبولة، فجاء هذا اللقاء الذي أعطيت فيه إشارة الحل.
وكما كانت دلالة أول مظاهرة شعبية دفاعًا عن حرية الصحافة في 1909م، ثم معركة إسقاط قانون باسيلي 1951م، جاءت منذ ثلاثة عقود معركة القانون (93)، الذي أعتبره أواسط عقد فريد من المعارك المهمة، وكما سبقتها معارك كثيرة لحقتها أخرى صاغ فيها الوعي الجمعي للصحفيين أساليبه وطرقه؛ دفاعًا عن هذا الكيان النقابي لن تكون آخرها الجمعية العمومية الحاشدة، التي رفضت اقتحام النقابة في 4 مايو 2016م، أو الرسائل الجلية، التي بعثت بها خلال انتخابات مارس 2023م، أو الانتخابات الأخيرة في 2 مايو 2025م.
المهم مَن يفك شفرة هذه الرسائل، ومَن يدرك أن التاريخ ليس مجرد سطور تطل علينا من الماضي.