على غير عادتنا فى المقال الأسبوعى، لن يكون التركيز فى السطور التالية على موضوع واحد، بل سأنتقل بالقارئ الكريم بين بعض الموضوعات التى شغلت الرأى العام المصرى خلال الأيام والأسابيع القليلة الماضية. المتابع للشأن الاقتصادى فى مصر يلاحظ أن التصديق على تعديل قانون الإيجار القديم، واستقرار سعر صرف الجنيه المصرى وتحسّن بعض مؤشرات الاقتصاد الكلى وقضايا الغاز التى انعكست على توقعات النمو.. كلها كانت أهم ما غص به فضاء الأنباء الاقتصادية فى البلاد على مدار الشهر. لنرسم فى هذا المقال صورة متشابكة، علّها تكون أقل تعقيدًا من تلك التى تحيطنا بها مواقع التواصل، بما تثيره من جدليات عبثية واستنتاجات مزعجة.
تعديلات قانون الإيجار القديم.. بين الإصلاح والبعد الاجتماعى
من بين القضايا التى أثارت نقاشًا واسعًا، يأتى تصديق رئيس الجمهورية على تعديلات قانون الإيجار القديم، الذى ظل لعقود طويلة أحد أكثر الملفات العقارية حساسية. وُضع هذا القانون فى ظروف تاريخية استثنائية، هدفها حماية المستأجرين من تقلبات السوق وتفادى أزمات سكنية، لكنه مع مرور الوقت خلق تشوّهات هيكلية، حيث تجمدت القيمة الإيجارية عند مستويات متدنية للغاية مقارنة بالقيمة السوقية للعقار.
اقتصاديًا، أدى هذا الوضع إلى عزوف كثير من الملاك عن صيانة أو تطوير العقارات المؤجرة، بل وهجر بعضها السوق تمامًا، مما أسهم فى تدهور حال عدد كبير من المبانى فى مناطق حيوية من المدن المصرية. من جهة أخرى، ظل المستأجرون القدامى يتمتعون بامتيازات إيجارية شبه ثابتة، حتى فى ظل ارتفاع معدلات التضخم وتغيّر هيكل الدخول.
التعديلات الجديدة التى دخلت حيز النفاذ (رغم تكهنات حالمة برفض الرئيس للتصديق على القانون!) تسعى لإعادة التوازن بين حقوق المالك وحقوق المستأجر، من خلال رفع تدريجى للقيمة الإيجارية على مدى عدة سنوات، بما يمنح المستأجرين فرصة للتكيّف، وفى الوقت ذاته يحفّز الملاك على استثمار عوائد عادلة فى صيانة العقار وسداد مستحقات الدولة الضريبية. كما تتجه الرؤية نحو تحرير أسرع للعقود الخاصة بالأنشطة التجارية والإدارية، نظرًا لارتفاع القدرة المالية لهذه الفئات، وإمكانية استيعابها لتغيرات السوق.
دوليًا، هناك تجارب ناجحة فى إعادة هيكلة قوانين الإيجار القديم مثل فرنسا وإسبانيا؛ حيث تم الدمج بين آلية الزيادة التدريجية والبرامج الاجتماعية لدعم محدودى الدخل، بما يضمن حماية الفئات الضعيفة وتحقيق توازن فى السوق العقارية. وفى السياق المصرى، يظل البعد الاجتماعى عنصرًا حاسمًا، ما يفرض على الحكومة بالتوازى مع الإصلاح القانونى إطلاق برامج دعم أو قروض ميسرة للمستأجرين غير القادرين، تجنبًا لتحويل الإصلاح الاقتصادى إلى عبء معيشى إضافى.
الجنيه المصرى.. إشارات قوة حذرة
شهد الشهر الماضى تحسنًا ملحوظًا للجنيه المصرى أمام الدولار فى الأسواق. هذا التحسن لم يكن محض صدفة، بل نتيجة مباشرة لاتباع البنك المركزى سياسة نقدية متشددة ومستقلة، حافظت على أسعار فائدة مرتفعة، جذبت التدفقات الدولارية، خاصة مع عودة بعض المستثمرين الأجانب إلى سوق أدوات الدين المحلية. كذلك يأتى التحسّن فى قيمة العملة المحلية مشفوعًا بتحسّن الكثير من مصادر النقد الأجنبى وفى مقدمتها السياحة وتحويلات العاملين فى الخارج. ولا يمكن إهمال فكرة تراجع قيمة الدولار فى مختلف أسواق العملة بالخارج، على خلفية الساسة الحمائية «الترامبية».
السياسة النقدية الحالية فى مصر تميزت بما يمكن وصفه بإدارة «الربط المرن» لسوق الصرف، بحيث تم امتصاص الصدمات دون استنزاف مفرط للاحتياطيات الأجنبية، والتى ارتفعت بالفعل إلى نحو 49 مليار دولار بنهاية يوليو الماضى. لكن تحسّن الجنيه بصورة مستقرة يبقى مرتبطًا بمدى قدرة الاقتصاد على توليد تدفقات دولارية مستدامة من عائدات التصدير والسياحة وتحويلات العاملين بالخارج وجذب الاستثمارات الأجنبية، وليس فقط عبر أدوات الدين أو الاستثمارات غير المباشرة قصيرة الأجل.
الأسواق المالية.. بورصة تنتعش وثقة تتحسن
على صعيد البورصة المصرية، واصل مؤشرها الرئيسى EGX30 ارتفاعه ليسجل مستويات قياسية جديدة، مستفيدا من تحسّن شهية المخاطرة لدى المستثمرين المحليين والأجانب، وتحوّل دفة الحرب فى المنطقة إلى سيناريوهات أقرب إلى التهدئة واللجوء إلى حل الدولتين الذى تتبنّاه مصر. كذلك استفادت الأسواق من دخول سيولة جديدة، خاصة من الصناديق الإقليمية، مما منح أسواق المال والسلع دفعة إضافية، فى وقت تشير فيه بيانات مؤشر مديرى المشتريات (PMI) إلى تحسّن نسبى فى أوضاع القطاع الخاص غير النفطي، حيث سجل المؤشر 49,5 نقطة، وهو أعلى مستوى له منذ خمسة أشهر، مع تسجيل أول زيادة فى الوظائف منذ تسعة أشهر.
ورغم أن المؤشر لا يزال دون مستوى الـ 50 نقطة الذى يفصل بين الانكماش والنمو، فإن الاتجاه التصاعدى يوحى باقتراب نقطة التحوّل، خاصة إذا استمرت الإصلاحات الهيكلية وتحسّنت بيئة الأعمال.
القضية هى قضية الغاز
توقيع اتفاقية كبرى بقيمة 35 مليار دولار لاستيراد الغاز الطبيعى من حقل «ليفياثان» الإسرائيلى حتى عام 2040. والمؤكد أن هذا الاتفاق ليس جديدًا تمامًا، بل أقرب إلى توسّع فى كميات الضخ المستقر عليها فى اتفاق قائم منذ عام 2019. من الناحية الاقتصادية، يأتى هذا الاتفاق فى وقت تشهد فيه مصر فجوة واضحة بين الإنتاج المحلى والطلب المتزايد. تشير البيانات إلى أن الاستهلاك اليومى من الغاز فى مصر يبلغ نحو 6,2 مليار قدم مكعب (قد تصل إلى ما يزيد عن 7 مليارات خلال ذروة الاستهلاك الصيفية)، بينما لا يتجاوز الإنتاج المحلى حاليًا 3,3 مليار قدم مكعب يومياً، ما يترك فجوة تُقدَّر بنحو 2,7 مليار قدم مكعب يوميًا (قابلة للزيادة أثناء الضغط)، وهى فجوة واسعة إذا لم تُغطَّ فإنها تؤثر سلبًا على خطط الطاقة والتصنيع وقدرات توليد الكهرباء. خلال الأشهر الماضية، وفى سياق انقطاع وتذبذب إمدادات الغاز من الشرق بسبب الحرب، كان الاعتماد كبيرًا على استيراد الغاز المسال، ثم إعادة تغييزه وضخه فى الشبكة الوطنية، بغرض منع انقطاعات الكهرباء خلال أشهر الصيف، ولكن بتكلفة مضاعفة تتمثّل فى الضغط على العملة الصعبة، وارتفاع فاتورة الغاز المسال وعملية التغويز فضلًا عن الاعتماد على السوق الحاضرة، وصعوبة تدبير وتجهيز البنية اللازمة لعملية التغويز. كما كان الاعتماد أيضاً على استيراد كميات كبيرة من المازوت لتعويض نقص الغاز الطبيعى.
لاعتبارات اقتصادية بحتة، مهم جدًا أن تستفيد مصر من غاز الشرق الذى يأتى فى الأساس بغرض التسييل فى إدكو ودمياط وإعادة التصدير لأوروبا.. لكن تبين مع زيادة الاستهلاك المحلى وظروف نقص الإنتاج والاستكشافات وزيادة أحمال فصل الصيف.. حاجة مصر لاستغلال هذا الغاز محليًا؛ حيث يضخ مباشرة فى صورته الغازية فى الشبكة الوطنية، بما يسمح باستفادة كبيرة من فارق السعر عن الغاز المسال المستورد بتكلفة باهظة، ناهيك عن الحاجة لإعادة تغييزه.. لكن من الضرورى أيضًا، التأكيد على اعتبار غاز إسرائيل (من الحقلين) بمثابة احتياطى للاستهلاك، مع العمل على التحوّط ضد انقطاعه وتذبذب إمداداته بعقود المشتقات المناسبة، لحين زيادة حجم الإنتاج المحلى المخطط فى الأجل المتوسط والاستغناء عن استخدامه محلياً بصورة كاملة ما دامت اقتصاديات الاستخدام تسمح بذلك. الفكرة إذن تكمن فى سهولة وسرعة التحوّل عن استخدام هذا الغاز بلا تكلفة تذكر، مع استمرار الاستفادة منه طالما أنه أرخص بديل متاح.
الاقتصاد الكلى.. نمو مشروط بالإصلاحات
على المدى المتوسط، يتوقع البنك المركزى المصرى وصندوق النقد الدولى نمو الناتج المحلى الإجمالى بنسبة 4,8٪ خلال السنة المالية 2025–2026، مع إمكانية الوصول إلى 5,1٪ فى العام التالى، إذا ما استمر الانضباط المالى وتم تسريع وتيرة الإصلاحات، لا سيما فى مجالات تحرير الأسواق، وتبسيط إجراءات الاستثمار، وتوسيع الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
لكن هناك بعض التحديات القائمة، أبرزها: ارتفاع عبء خدمة الدين، وضغط فاتورة الواردات، والحاجة الملحّة إلى زيادة الإنتاجية الصناعية والزراعية.. هذه الملفات ليست ثانوية، بل حاسمة لأى استقرار طويل الأمد.
ويبقى المواطن الرقم الأهم فى معادلة التحسّن الاقتصادى، إذ لن يكون هذا التحسّن مدعومًا بقوى الإنتاج ومرونة الاستثمار ورشادة الاستهلاك إلا إذا شعر المواطن المصرى بتساقط ثمار الإصلاح متمثلة فى زيادة فرص العمل، وتحسن الأجور، وزيادة القوى الشرائية، واستقرار الأسعار وارتفاع مؤشرات التنمية البشرية بصفة عامة متمثّلة فى الأساس بمؤشرات الصحة والتعليم والدخل والمأوى.