مفارقات الجيوسياسية الهندية - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 6:50 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مفارقات الجيوسياسية الهندية

نشر فى : الإثنين 11 سبتمبر 2023 - 7:35 م | آخر تحديث : الإثنين 11 سبتمبر 2023 - 7:35 م

قديما قال مؤرخون: إن «الجغرافيا ظل الله على الأرض». أما ابن خلدون، فاعتبر أن: «الجغرافيا هى القدر». ولطالما تحدث باحثون عما يطلق عليه «لعنة الجغرافيا»؛ حين تفرض معطيات جيوبوليتيكية بعينها تهديدات لقاطنى دولة ما، تجعلهم فى حالة حرب متواصلة مع جيرانهم، ضمن «دائرة عداء سيزيفية».
ففى مؤلفه المعنون: «انتقام الجغرافيا... ما الذى تخبرنا به الخرائط عن الصراعات المقبلة والحرب ضد المصير؟»، يستعرض الباحث الأمريكى «روبرت د. كابلان»، مفاعيل الجغرافيا، وقدرتها على توفير حياة مزدهرة، حين تتوارى صراعات الحدود، وتختفى تهديدات الجيران القدريين. أو تغدو وبالا مقيما على رءوس أقوام وشعوب، عانى بعضهم، قرونا، من عداءات مستحكمة، جراء بطش دول وشعوب تجاورهم، وتناصبهم العداء.
ينضح الجوار الجغرافى للهند بمخاوف أمنية وتهديدات استراتيجية شتى. كونها تتشارك حدودا طويلة ومتنازعا عليها، مع الصين وباكستان. وتستبد بنيودلهى مخاوف من إمعان هذين الجارين فى تعميق تعاونهما الاستراتيجى البينى، بموازاة سعيهما لإقامة شراكات استراتيجية مع موسكو. كذلك، تخشى الهند تطلعات الصين، التى صاغت استراتيجية «التنين الأزرق» لمنطقة المحيطين الهندى والهادئ؛ بغية تحويل المحيط الهندى إلى ما يسميه الأدب الصينى القديم «المحيط الغربى الصينى»؛ عبر استراتيجية التجديد الوطنى والهيمنة العالمية، المستندة على تعظيم القوة الاقتصادية والعسكرية. حيث تستهدف بكين مد نفوذها إلى بحر الصين الجنوبى، وتكريس وجودها البحرى داخل الروافد الغربية للمحيط الهندى، بقصد تطويق الهند. معتمدة على صلاتها الجيوسياسية مع سريلانكا وجيبوتى بالمحيط الهندى، وتايوان وجزر سليمان فى المحيط الهادئ.
فى سفره المعنون «طريق الهند: استراتيجيات لعالم غامض»، أشار وزير الشئون الخارجية الهندى، إلى اعتقاد بلاده أنها تواجه عودة، لا مفر منها، إلى التاريخ، ضمن الحوكمة الدولية المؤسسة لتعدد الأقطاب.
فى هذا السياق، تتبنى إدارة رئيس الوزراء، ناريندرا مودى، طروحات استراتيجية تتناغم وفكرة حوكمة عالمية فى سياق التعددية القطبية؛ والتى يمكن للهند، من خلالها، أن تستثمر وضعها كعنصر توازن دولى، للعب دور الوسيط بين الصين، روسيا والولايات المتحدة.
غير بعيد، عمدت حكومة مودى، إلى استبدال اسم الهند بـ«بهارات»، وهى كلمة تعود إلى اللغة السنسكريتية القديمة، والنصوص الهندوسية العتيقة. ففى مسعى منه لإزالة أسماء تعود إلى الحقبة الاستعمارية، وجهت حكومة حزب «بهاراتيا جاناتا» القومى الهندوسى، دعوات عشاء رسمية إلى رؤساء الوفود المشاركة بالقمة الثامنة عشر لمجموعة العشرين بنيودلهى، باسم «رئيس وزراء، ورئيسة بهارات» بدلا من «رئيس وزراء، ورئيسة الهند». وهى الخطوة، التى أثارت مخاوف بعض الأحزاب السياسية المعارضة، من أن تتسبب فى تفاقم العنف ضد الأقليات غير الهندوسية، لا سيما المسلمين، الذين تعد الهند ثالث أكبر دولة حاضنة لهم بعد إندونيسيا وباكستان. خصوصا بعدما انزلقت الحكومة القومية الحالية، فى الدولة ذات الأغلبية الهندوسية، إلى التخلى التدريجى عن سياسة التعايش السلمى بين الأقليات، فى دولة متعددة الأعراق والأديان.
مبتغية اللحاق بالتفوق العسكرى الصينى المتنامى، ضاعفت الهند إنفاقها الدفاعى. ووفقا لمعهد ستوكهولم الدولى لأبحاث السلام، حيث قفز بنسبة 50 %، من 49.6 مليار دولار عام 2011، إلى 76.6 مليار دولار العام الماضى. لتتخطى روسيا والمملكة المتحدة، وتصبح ثالث أكبر منفق عسكرى فى العالم، كما ارتفع فى ميزانية الحكومة للعام الحالى بنحو 10%. غير أن تفوق بكين وتنامى نفوذها فى منطقة المحيطين الهندى والهادى، يبقيان حائلا دون تمكن الهند، منفردة، من كبح جماح الصين. الأمر الذى يضطر دلهى إلى استجداء الدعم الأمريكى.
تتيح حالة الاستقطاب الجيوسياسى بين الولايات المتحدة وكل من الصين وروسيا، فرصة تاريخية للهند، لتحصيل مكاسب استراتيجية تضعها موضعا متقدما بين القوى الكبرى. فعقب تجدد المواجهات الهندية ــ الصينية بمنطقة لاداخ الحدودية عام 2020، ضمت واشنطن الهند إلى تحالف «كواد» المناوئ لبكين. كما انبرت فى مؤازرة دلهى على معالجة الفجوات الهائلة بينها وبين بكين، خصوصا فى المناحى العسكرية والتقنية. ويخطط الأمريكيون لمشاركة الهند تكنولوجيا الدفاع والحاسوب المتقدمة، بما فى ذلك الإنتاج المشترك المحتمل لمحركات شركة «جنرال إلكتريك» النفاثة، ضمن خطة معروفة باسم «مبادرة الولايات المتحدة والهند بشأن التقنيات الحساسة والناشئة»؛ التى تعزز أجندة واشنطن الأوسع لتنمية العلاقات العسكرية والتكنولوجية وسلسلة التوريد مع الدول الشريكة، وبناء نظام بيئى ديمقراطى عميق من التكنولوجيا العالية. فمن خلال هذه المبادرة، سيتسنى للهند إنتاج محركات «جنرال إلكتريك» النفاثة محليا، لاستخدامها فى تصنيع طائراتها المقاتلة، «هال تيجاس»، التى تعطل برنامج إنتاجها، جراء العجز عن توفير محرك ورادار محليى الصنع، لإنتاج طائرة جيل خامس شبحية.
تصف وثيقة استراتيجية الأمن القومى الأمريكية الهند بأنها «شريك رئيس» للولايات المتحدة فى تحقيق هدف «منطقة المحيطين الهندى والهادئ الحرة والمفتوحة.وتدرك واشنطن أهمية دور دلهى فى الحفاظ على توازن القوى العالمى، استنادا إلى إمكاناتها الجيوسياسية. فعلاوة على كونها قوة نووية وفضائية، هى الدولة الأولى عالميا من حيث عدد السكان، والسابعة من حيث المساحة، والخامسة من حيث أضخم اقتصاد. وخلال اجتماع، بايدن ومودى، بواشنطن فى يونيو الماضى، عبر الزعيمان عن مخاوفهما المشتركة جراء سعى الصين إلى إعادة تشكيل آسيا والنظام الدولى، وحددا فرصا جديدة لتمديد فترة العمليات فى متناول جيوشهما.
كونها شريكا جيوسياسيا، يمكن تأهيله لموازنة وترويض التنين الصينى، ودعم الاستراتيجية الأمريكية الهادفة إلى «التحجيم الوقائى لبكين» ومنعها من السيطرة على الفضاء الآسيوى والتمدد خارجه. توالت مبيعات الأسلحة الأمريكية للهند، وتنوعت جهود الشركات الأمريكية والغربية الرامية لجعلها ثقلا اقتصاديا موازيا للصين. وهو ما أدى إلى نقل مراكز إنتاج شركات التصنيع والتكنولوجيا الكبرى إلى الهند، ومنحها دورا أوسع فى تنويع سلاسل توريد أشباه الموصلات، لتقليل الاعتماد على الصين. وعلى درب الشراكة الاستراتيجية، جاء إبرام اتفاقية دفاعية عام ٢٠٠٥، واتفاق التعاون النووى المدنى عام ٢٠٠٨. كما دشن البلدان «مبادرة التجارة والتكنولوجيا الدفاعية»، بهدف تبسيط سياسات نقل التكنولوجيا والتوصل إلى إمكانات للتنمية والإنتاج المشترك.
نظرا لكونها مفتاح توازن القوى مع الصين، اضطر، بايدن، إلى غض الطرف عن سقطتين أساسيتين اقترفتهما الهند. أولاهما، الامتناع عن التصويت بالأمم المتحدة على إدانة حرب روسيا فى أوكرانيا عام 2022، مثلما سبق ورفضت إدانة الغزو السوفييتى لأفغانستان عام 1979. وثانيتهما، الابتعاد عن «القيم المشتركة» بين أكبر ديمقراطيتين فى العالم. فرغم تحول، مودى، غير الليبرالى نحو القومية الهندوسية، وانتهاكه الحريات الدينية ببلاده، لم يتورع، بايدن، عن دعوته مرتين لحضور مؤتمرى القمة من أجل الديمقراطية. لذا، يرى، كورت كامبل، مستشار، بايدن، للشئون الآسيوية، أن الأهمية الجيوسياسية للهند، تجبر، بايدن، على التجاوز عن تراجع ديمقراطيتها الليبرالية.
ففى حين يبلغ عدد المسلمين فى الصين 30 مليون نسمة، يمثلون 2% من إجمالى السكان البالغ 1.4 مليار، يناهز تعداد مسلمى الهند 200 مليون نسمة، يمثلون 18% من إجمالى سكانها، الذى تخطى 1.4 مليار نسمة. وبينما يكابد المسلمون فى كلتا الدولتين اضطهادا، وسياسات عنصرية وتمييزية سلبية، تتبنى إدارة، بايدن، مقاربتين متناقضتين حيال البلدين بهذا الخصوص. فلقد فرضت عقوبات على مسئولين حكوميين صينيين، بجريرة انتهاكهم حقوق الإنسان فى إقليم شينجيانج. أما رئيس الوزراء الهندى، الذى سبق لواشنطن اعتباره شخصا منبوذا طيلة عشر سنوات، حرمته خلالها من تأشيرة دخول الولايات المتحدة، بسبب انتهاكاته الجسيمة للحريات الدينية، التى تستهدف المسلمين بصورة خاصة؛ فقد دعاه، بايدن، فى يونيو الماضى واستقبله استقبال الفاتحين. الأمر الذى يعرى انتقائية واشنطن فى التعاطى مع قضايا الحريات وحقوق الإنسان حول العالم.

التعليقات