شرطان ضروريان للتقدم - جلال أمين - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 8:42 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شرطان ضروريان للتقدم

نشر فى : الثلاثاء 11 نوفمبر 2014 - 8:05 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 11 نوفمبر 2014 - 8:05 ص

إنى أعتقد مثل كثيرين من المصريين، أن علاج معظم المشكلات المصرية يبدأ من الاقتصاد. فإذا كان الأمر كذلك، فما الذى يجعلنى أحجم عن المشاركة فى معظم ما أدعى إليه من نداءات أو حوارات مما يعقد تحت عنوان البحث عن حلول لمشكلاتنا الاقتصادية؟

وعلى سبيل المثال، تلقيت منذ أيام قليلة دعوة لندوة تُعقد على مدى يومين كاملين، فى فندق من الفنادق الفاخرة بالقاهرة، وكل جلساتها مخصصة لمناقشة مشكلة أو أخرى من مشكلات مصر الاقتصادية وطرق علاجها. والدعوة تأتى من مؤسسة جامعية أحمل لها ولرئيسها كل احترام، والداعى المنظم للندوة رجل وطنى وأكاديمى محترم، فما سر إحجامى عن المشاركة؟ بل ولم أتردد على الإطلاق فى اتخاذ قرارى بالاعتذار، فقد سبق ان اعتذرت عن ندوات ومؤتمرات كثيرة مثلها، ولم أندم على الاعتذار، رغم أنى بهذا الاعتذار لابد أن أكون قد خيبت أمل بعض من كان يظن أن لدىّ ما يمكن أن يفيد فى هذه المناقشات.

إنى أكتب هذا المقال لبيان السبب إذ إن السبب قد يمس جانبا مهما من الحقيقة فيما يتعلق بمشكلات مصر الراهنة، التى كثيرا ما تبدو مستعصية على الحل.

السبب باختصار أننى، فى كل هذه المناسبات يسيطر على الشعور بأن هناك شرطين ضروريين لحل مشكلات مصر الراهنة، ولكنهما للأسف غير متوفرين. المدهش فى الأمر أن هذين الشرطين بسيطان للغاية، وإن كنا قد حرمنا منهما لفترات طويلة من حياتنا، ومن ثم أصبنا بهذا التعثر شبه المستديم فى مسيرتنا نحو تحقيق آمالنا.

هذان الشرطان، هما: النية الصادقة، وحرية الإرادة، هل يمكن حقا أن يكون غياب هذين الشرطين البسيطين هو السبب فيما نحن فيه من فشل؟

فلنأخذ أولا: «النية الصادقة» هل صحيح أننا افتقدناها فى مصر طوال الجزء الأكبر من تاريخنا الحديث؟ أظن أن الإجابة هى للأسف، بالإيجاب، فيما يتعلق باتخاذ القرارات الأساسية فى مصر، سواء تلك المتعلقة بالاقتصاد أو غيره. قد تبدو هذه الإجابة مدهشة بالنظر إلى أن متخذى هذه القرارات كانوا يختارون عادة من بين صفوة مصر المتعلمة، وأصحاب التجارب الطويلة فى الحكم أو الإدارة، بل وأيضا من بين المشهود لهم بالوطنية والنزاهة. فكيف لا يتوفر لدى هؤلاء هذا الشرط البسيط «النية الصادقة»، فى تحقيق تقدم الوطن ورفاهيته؟

تفسير ذلك يندرج تحت أحد احتمالين. الاحتمال الأول أنه مهما اتصف من بيده سلطة ما، بالعلم والخبرة والوطنية والنزاهة، فإن كل هذا يضيع سدى إذا كان فوقه، من هو أكبر سلطة منه ولا يتمتع بهذه الصفة «النية الصادقة». لقد عرفت فى حياتى (وكثيرا ما كانت معرفة عن قرب) رجالا تولوا مسئوليات كبيرة، وكانوا يتحلون بهذه الصفات الممتازة، وقد قبلوا تولى هذه المسئوليات بسعة صدر أحيانا، أو بعد تردد أحيانا أخرى، ولكنهم سرعان ما اكتشفوا انه «لا فائدة»، لهذا السبب بالضبط، وهو أن من هم أعلى منهم فى السلطة ليست لديهم «النية الصادقة».

الاحتمال الآخر هو أن يؤدى المناخ السائد فى البلد إلى أن يتحول الرجل الذى تتوفر فيه هذه «النية الصادقة»، إلى شخص مختلف تماما، فيتحول المشروع الوطنى لديه إلى مشروع فردى جدا، وتتحول الآمال الوطنية على يديه إلى أهداف أنانية جدا، ورخيصة للغاية (قد لا تتعدى مثلا الحصول على فيللا أو شاليه فى الصف الأول (وليس فى الصف الثانى) فى إحدى القرى التى تبنيها الدولة على شاطئ جميل فى الساحل الشمالى، وتوزع مبانيها طبقا لدرجة القرب من أصحاب النفوذ والسلطة).

لنأت الآن إلى الشرط الثانى: «حرية الإرادة» إذ فلنفرض إن توفرت لدى جميع الممسكين بالسلطة وأصحاب القرارات الحاسمة فى أمور البلاد هذه النية الصادقة، فما جدوى ذلك إذا كانت البلاد تمر بحالة من التبعية لقوة خارجية تتعارض أهدافها تعارضا صارخا مع تحقيق أى تقدم حقيقى فى الاقتصاد أو التعليم أو الديمقراطية؟ كان هذا هو الحال بالطبع فى أيام الاستعمار، حيث كانت القوة الخارجية تختار من بين السياسيين المصريين الذين يتولون اتخاذ القرارات المباشرة، من تعرف صدق نيته فى خدمتها، وليس فى خدمة تقدم الوطن. فإذا حدث واضطرت للاستعانة بغير هؤلاء من السياسيين، فيأتى للحكم زعيم وطنى يتمتع بـ«النية الصادقة»، انتهزت هذه القوة الخارجية أول فرصة تسنح للإطاحة به، إن لم يكن بالقتل، بإشعال حريق، أو ثورة مدبرة أو بترتيب انقلاب عسكرى.. إلخ. فلما انتهى عهد الاستعمار المكشوف، وحل عهد التبعية المستترة بألف غطاء، استمر الحال بالضبط مثلما كان أيام الاستعمار، ولكن فى ظل خطاب له مظهر الاستقلال وحرية الإرادة دون أن يكون كذلك.

•••

إن ذاكرتى لا تعى فترة توفر فيها هذان الشرطان لمصر: النية الصادقة وحرية الإرادة، إلا تلك الفترة القصيرة للغاية التى امتدت من أواخر الخمسينيات إلى منتصف الستينيات فى القرن العشرين، وهى تبين لنا بوضوح حجم الإنجاز الذى يمكن لنا تحقيقه فى سبيل التقدم، وفى فترة قصيرة جدا، طالما توفر لدينا هذان الشرطان.

توفر لمصر فى ذلك الوقت رئيس وطنى (جمال عبدالناصر)، كما توفر مناخ دولى يسمح لها بدرجة عالية من حرية الإرادة (فترة احتدام الحرب الباردة وقبول الكتلتين المتصارعتين لسياسة الحياد الإيجابى وعدم الانحياز من جانب بعض بلاد العالم الثالث). أذكر مثلا كيف بدأ عبدالناصر إنشاء جهاز التخطيط فى منتصف الخمسينيات. بدأ هذا الجهاز كلجنة صغيرة (اسمها لجنة التخطيط) قبل أن تصبح وزارة وينشأ معهد لخدمتها. كم يلفت النظر كيف بدأ الأمر صغيرا جدا، وبعدد صغير جدا من الأشخاص، ولكن بجدية تامة وإخلاص كامل ودون أى مظاهر أو كاميرات التليفزيون، رأسهم فى البداية أستاذ فى الفلك، ولكنه يهوى التخطيط (إبراهيم حلمى عبدالرحمن)، ويثق فيه عبدالناصر. وجاء أستاذ الفلك بعدد من الاقتصاديين المؤمنين بالتخطيط (وليس بعكسه) والمؤمنين بمصر فى الوقت نفسه (دون تطلعات طبقية). وانتهى الأمر بوضع خطة (60 ــ 1965) وتنفيذها بالفعل، فإذا بها تصبح، فى تاريخ مصر الاقتصادى، وبعد مرور أكثر من خمسين عاما على وضعها، هى خطة مصر الأولى والوحيدة. صحيح أنها بدلا من الهدف الإجمالى (نمو الناتج القومى بمعدل 7 ٪ سنويا) تحقق هدف أقل قليلا (6.5 ٪)، ولكنها وضعت مصر على مسار رائع فى التصنيع، وفى تنمية الزراعة، وفى تحقيق مزيد من العدالة فى توزيع الدخل، وقضت على البطالة، ومن ثم رفعت الآمال إلى عنان السماء.

فى منتصف الستينيات، (وحتى قبل هزيمة 1967)، أجبرت مصر على أشياء كثيرة من بينها هجر التخطيط، إذ أوقف فجأة تدفق المعونات الأجنبية على مصر، من الغرب والشرق على السواء بما فى ذلك معونات الهيئات الدولية المحكومة بإدارة الغرب. فقدت مصر حرية الإرادة، وسرعان ما توالى عليها بعد ذلك، عهد بعد آخر، استبعد خلالها، بانتظام مدهش، أى شخص يثبت أنه ذو «نية صادقة». فإذا حدث، على سبيل الخطأ المحض، أن تولى إحدى المسئوليات شخص صادق النية، جرى استبعاده على عجل، وجرى البحث فورا عن شخص آخر يحلّ محلّه

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات