صَيْحَـــة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 8:44 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صَيْحَـــة

نشر فى : الجمعة 12 أغسطس 2022 - 8:10 م | آخر تحديث : الجمعة 12 أغسطس 2022 - 8:10 م

صاحت السيدةُ في وجه الصبية التي لا يجاوز عمرها الخامسةَ على أقصى تقدير، وأمرتها بكل ما أوتيت في لحظتها من حدة وضيق، أن تتركَ على الرفّ قليلَ ما حَمَلت مِن حلوى: كفاية.. كفاية. لم تُضِف كلمةً أخرى تشرح سببَ غضبِها ورفضِها، لكنَّ مظهرَ الاثنتين كان كفيلًا بفضحِ الحال. لفتَت الصَّيحةُ أنظارَ الواقفين في الصَّف؛ هزَّ بعضُهم رأسه وغَمغَم في أسفٍ، وأطرقَ البعضُ الآخر مُلتزمًا الصَّمتَ والسُّكونَ، فيما أفلتَت البنتُ ما بيدِها وقد عَبَسَت ملامحُها وشارفت على البكاء. تَجَمَّد المَشهدُ عند هذا الحدّ، وإن دلَّلت ردودُ الأفعالِ في مُجملِها على حالِ بؤسٍ يتشاركُها الجميع.
• • •
الصَّيحةُ في قواميسِ اللغة العربية هي الصوتُ العالي المحمل بعواطف وانفعالات تختلف باختلاف المناسبة، يسمعها مَن بالأنحاءِ ويقدرون ما تشي به، كذلك هي المرَّة الواحدة من الفِعل صَاحَ والصائح فاعلٌ، أما الصَّيَّاح بتشديد الياء؛ فالشخص كثير الصياح.
• • •
للصَّيحةِ أنواعٌ ومعانٍ؛ هناك صَيحةُ انتصارٍ يُطلِقها الغالبُ ما تحقَّق له الفوزُ وتهيأ للاحتفال، وصَيحةُ دهشةٍ وتَعجُّب تأتي في أعقابِ حَدَثٍ غير مُتوقَّع ولا مَنظور، وصَيحةُ استغاثةٍ يطلبُ صاحبُها العَونَ والمُساعدةَ وقد صارَ قابَ قوسين مِن حافَّة الانهيار، ثم صَيحة ألمٍ تصدر عن مُصابٍ في الجَسد أو مَكروبٍ في الروحِ، والأخيرةُ من أمضى ما يكون؛ فوجع النفسِ الذي يُفضي إلى تأوُّه وأنينٍ، لأشدَّ وطأةً من طعنةِ سكينٍ في الصَّدر.
• • •
صيحاتُ الفرحِ كثيرةُ الأسبابِ والدوافع؛ فإذا حقَّق طالبٌ درجةً عاليةً تؤهله للالتحاقِ بالمجال الذي يريد بناء مستقبل من خلاله؛ سمع الجيرانُ صيحاتِ أسرته مُنتشيةً مُهلِّلة، وإذا عاد مسافرٌ من غَيبةٍ طالت؛ حفَّت به صيحاتُ السعادةِ وجلجلت فيها الأشواقُ، وإذا التقى اثنان فتطوَّرت بهما المعرفةُ إلى ارتباطٍ وثيق؛ كانت صيحاتُ التهاني والمُباركةِ أولَ إعلان، ولعلَّ الزغاريدَ أبرز ما نملك مِن أدواتِ الاحتفاءِ في لحظاتِ الاستبشارِ والسرور. لا يَسقطُ من ذاكرتي ذاك المشهد السينمائي الساخر الذي تُطلِق فيه القديرةُ أنعام سالوسة زغرودةً عاليةً وهي تتقافز مع زملائِها وزميلاتِها في الهواء، فرحةً غامرةً باحتمالاتِ الحصولِ على وَجبةِ كباب. المَشهد من فيلم الإرهاب والكباب للفنان الكبير عادل إمام، وهو واحد من أمتع أعمال الراحلِ العظيم وحيد حامد، وأرقها كشفًا لواقعنا الأسيف.
• • •
يتقصَّى المَهمومون بعالمِ الأزياءِ والمُولعون بتصفيفاتِ الشَّعر وألوانِه؛ أحدثَ صَيحةٍ قضى بها المتربّعون على عروشِ التصميمِ والابتكار، وساقها أباطرة التسويق والترويج كي تسيطر على ساحةَ الجمال والأناقة. تتبدَّل الأشكالُ وتتغيَّر الأهواء؛ اليوم طويلٌ وأمس قصيرٌ، مَوْسِمٌ مُجعَّد يليه أملسٌ مَفرود، تارة مُتَّسِع وأخرى ضيق. بين صيحاتِ الملابسِ والشعورِ التي لا تستقرَّ على حالٍ يعدو المُستهلكون ويتسابقون، فيما تتحقَّقُ المكاسبُ الهائلةُ على الجانب المقابل وتتراكم الثروات.
• • •
عشت في فترةِ الطفولةِ صباحات باكرة، أنتظم فيها مع الزميلات في صفوفٍ متوازية، فيما تجوس المُشرفة بيننا متحفزة، تتأكد باهتمام بالغ أننا نردد تحيةَ العَلَم؛ لا تتقاعس مننا واحدةٌ ولا تتهاون أخرى. الصَّيحةُ العاليةُ المُدويةُ التي ما فتأت الصدور تُطلقها في حماسةٍ وحيوية منذ عقود؛ قد تحوَّلت بالتدريجِ إلى أداءٍ باهت، وصَوتٍ لا يكاد يُغادر الحَلق. تغيَّر فيها شيءٌ بمُرور الوقتِ ففقدت طبيعتَها ورونقَها، وتبدَّل الإحساسُ بوقعها. ربما تجلَّى الواقعُ بقتامتِه وثقلِه، وانعكسَ على مشاعر غضَّة فتية فأنهكها، وكبَّل الأحبالَ الصوْتيةَ فأورثها ضعفًا وخُمولًا.
• • •
كانت صيحةُ الديكِ مُرتبطةً بشقشَقةِ الفجرِ، فصارت تُسمَع في مُنتصَفِ الظهيرةِ وأناءِ الليل. لم يعد من فارقٍ بين شروقٍ وغروب، ومثلما صار العالمُ مكانًا واحدًا؛ بات الزَّمنُ مُتصلًا وارتبكت مَواقيتُ النَّومِ والصَّحوِ عند بَشَرٍ كثيرين وتحوَّلت الأنوار الكهربيةُ إلى امتدادٍ دائمٍ لضوءِ الشَّمسِ؛ حتى فقدت الطيور بوصلتَها وتخلَّت عن حِسها الغريزيّ، وانطلقت تصنع ما بدا لها.
• • •
يقول المأثور الشعبيُّ الأصيل: "الديك الفصيح يطلع من البيضة يصيح"، والقصد أن البداياتِ تُولَد في العادةِ واضحةٌ، تبشّر بالنتائج وترسمُ ما سوف يكون، فإذا كانت الخطوةُ الأولى هزيلةً، أفصحت عن مسارٍ مُرتبك مَهزوز.
• • •
لا عجب إن صدحت صيحاتُ الحرب وقرعت الطُّبول؛ فوجدت مَن يرقصُ على إيقاعها، ومَن ينظم لها الكلمات ويضع الأشعار ويجمع في نهاية المطاف الغنيمة. لا عجب أيضًا أن يتبدَّى المُنحدر على مَرمى ذراع؛ فيأتي من يدفع بالركبِ إلى الحافةِ، وأن يدعي المَعرفةَ والدِرايةَ ثم يقفُ مِن بعيد يرقبُ السقوط. العجبُ الوحيد أن يُنصِتَ الجُّمهور وأن يصفّقَ في حماسةٍ، ثم يندفعَ مَعصوبَ الأعينِ نحو مَصيرٍ بائس أليم.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات