من الخطأ الفادح اختزال زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى الحالية إلى قطر، فى الملف الاقتصادى فقط، وإهمال بقية الملفات الأخرى.
هناك بعض وسائل الإعلام الإقليمية والدولية حاولت اختزال الزيارة والعلاقة بين البلدين بأكملها فى هذا الملف فقط، وهو توجه لا يخلو أحيانا من اللؤم والتربص والإساءة لمصر، وكأنها تتخذ مواقفها بناء على المنح والمساعدات والودائع والاستثمارات، وليس بناء على مواقف مبدئية، سواء كان ذلك مع قطر أو مع أى دولة عربية نفطية لديها فوائض مالية أو حتى مع دول عالمية كبرى.
نعم هناك أزمة اقتصادية فى مصر، نتيجة تداعيات فيروس كورونا ثم الحرب الروسية الأوكرانية، وأسباب أخرى مختلفة، ونعم هناك حاجة مصرية ملحة للمزيد من الاستثمارات الأجنبية التى تضخ عملات أجنبية صعبة فى شرايين الاقتصاد المصرى لإقامة مشروعات مختلفة توفر فرص عمل وتنتج المزيد من السلع للاستهلاك المحلى أولا ثم التصدير ثانيا.
لكن الأصح أن مواقف الحكومة المصرية فى هذه النقطة كانت واضحة ومبدئية منذ خلافها الكبير مع سياسات الحكومة القطرية خصوصا بعد الدعم القطرى الواضح لجماعة الإخوان بعد ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، وبالأخص الدعم الإعلامى السافر والمكشوف.
أولا لو كان الأمر متعلقا بالأموال والمساعدات والاستثمارات فقط كما يصور البعض بحسن أو سوء نية، ما كانت قد نشأت خلافات من البداية. ولكانت الحكومات المصرية المتعاقبة ليس فقط من ٢٠١٣، بل من عام ١٩٩٦ قد قبلت بالإغراءات المالية القطرية التى كانت مرهونة بشروط محددة، أهمها استيعاب جماعة الإخوان فى المشهد السياسى قبل ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، ثم ضرورة سيطرة الجماعة على الحكم بعد هذه الثورة، وأخيرا ضرورة عدم إخراجها من الحكم بعد ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣.
مصر رفضت مرارا وتكرارا هذه الشروط وهذه الطريقة، بل وقطعت علاقتها مع قطر رغم أنها كان يمكن لها أن تستفيد كثيرا من الوفورات والفوائض المالية القطرية المشروطة، وبالتالى فمن الخطأ البالغ إعادة الترويج لهذه المقولة الآن مع زيارة الرئيس السيسى للدوحة.
والنقطة الثانية المهمة التى قد لا يدركها كثيرون أن قطر حافظت على جزء كبير من علاقاتها الاقتصادية مع مصر، طوال سنوات الخلافات، لكن الأهم أن ذلك لم يكن تضحية من قطر، بقدر أنه استثمارات قطرية تحقق عوائد مهمة، وبالتالى فإن هذه الاستثمارات، مع كل التقدير لأهميتها، فهى لا تصب فى صالح مصر فقط، ولكن فى صالح قطر أيضا.
ثالثا: الأصح أن الملف الاقتصادى يمثل جانبا مهما من العلاقات لكنه ليس كل العلاقات. ثم إنه ورغم أن كثيرين يقولون إن الاقتصاد هو الذى يوجه ويقود السياسة، فإن ذلك وإذا انطبق على الدول والاقتصادات الكبرى والمجتمعات المستقرة التى قطعت أشواطا طويلة فى التقدم، فإنه لا ينطبق بنفس الدرجة على العلاقات بين غالبية الدول العربية ودول العالم الثالث. فى هذه المناطق فإن السياسة هى التى تقود الاقتصاد.
وبالتالى فإن التدخل القطرى فى الشأن المصرى قبل سنوات، وفى ليبيا، وفى العديد من المناطق الملتهبة عربيا، هو الذى قاد إلى المشكلات، وبالتالى عرقل الاستثمارات البينية والتنمية الشاملة.
رابعا فإن العلاقات الاقتصادية بين دول الخليج النفطية وغيرها من الدول العربية، لم تعد فى السنوات الأخيرة تعتمد على المساعدات النقدية المباشرة والودائع بل على شراء الأصول بأسعار رخيصة للغاية بما يعود عليها هى بالنفع أولا.
خامسا أن مصر ضحت أكثر من مرة بأجزاء من المساعدات الأمريكية حينما أصرت واشنطن على ربطها بشروط سياسية تتشابه إلى حد كبير مع ما فعلته قطر فى الماضى. وبالتالى فإذا كانت مصر لم تستجب لضغوط أمريكية، فمن باب أولى ألا تستجيب لأى ضغوط أخرى.
ما سبق نقاط مهمة وهى لا تتصادم إطلاقا مع أهمية الاستثمارات سواء كانت عربية أو أجنبية، لكن المهم أن نضعها فى سياقها الطبيعى، وألا نستسلم لما تنشره أحيانا بعض وسائل الإعلام بحسن أو سوء نية، لأنه يكرس للأسف مفاهيم خاطئة ومضللة ومسيئة، وبالتالى علينا ألا نقع فى هذه المصيدة.
إذا الملف السياسى مع قطر يظل هو الأهم حتى الآن، وحينما يتم تصفية الإرث القديم يمكن الحديث بقوة عن كل الملفات الأخرى بما فيها الاقتصادية.
وكمواطن عربى أتمنى أن تفتح الزيارات المتبادلة بين البلدين صفحة جديدة تعود بالنفع على الشعبين والأمة العربية بأسرها.