الواقع يرفض بديلكم الوحيد - وائل جمال - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 7:05 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الواقع يرفض بديلكم الوحيد

نشر فى : الإثنين 17 ديسمبر 2012 - 8:40 ص | آخر تحديث : الإثنين 17 ديسمبر 2012 - 10:12 ص

هذا هو البديل الوحيد»، كم مرة سمعنا هذه الجملة منذ يناير ٢٠١١. ربما تكون مرة أو مرات مصحوبة بالأسف لأن الظروف لا تسمح بأكثر من ذلك ولأن الضرورات تفرض ما هو صعب: ليس أمامنا سوى توقيع قرض الصندوق، حتى وإن كان مشروطا وإلا الإفلاس، يجب وقف الإضرابات العمالية وإلا انهارت البلد، لا يمكننا تطهير جهاز الدولة لأنه لا توجد كفاءات (وكأنه كان بأى شكل كفئا)، لابد وأن نلعب الدورى العام حتى وإن كنا غير قادرين على تأمين حياة المتفرجين، لا نملك سوى أن نقول نعم لدستور معيب مشوه معادى للحريات وللعدالة الاجتماعية أو أن نقول لا فتمتد سلطات الرئيس الاستثنائية وتمتد المرحلة الانتقالية عاما آخر على الأقل دون برلمان.

 

هكذا يتم تصوير الأمور وتقليص اختياراتنا وتصفيتها فى درب واحد، دائما ما يقال لنا، أو نوضع فى خانة، أنه تفرضه الضرورات أو العملية الواقعية أو عدم وجود حلول أخرى.

 

غير أن سياسة الدرب الوحيد، وهو درب عادة ما يكون مظلما أو مليئا بالحفر ولا يؤدى إلا إلى ما هو أقل القليل إن لم يوقعنا فى المزيد من العثرات، هى فى الحقيقة تجفيف لمنابع الاحتمالات اللانهائية التى فتحتها الثورة لتحسين حياتنا.

 

ولا يعنى امتداد «أنا أو الفوضى» المباركية، وإما «الديكتاتورية المخابراتية أو الاخوان» على الطريقة العمر سليمانية، و»إما العسكر أو انهيار الدولة» التى روجها المجلس العسكرى، إلى «إما نعم أو الفوضى» الإخوانية، سوى أن الذين يحكموننا جميعا يدورون فى مدار ما قبل الثورة سواء لأن ذلك مسألة وجود بالنسبة لهم، أو أن مصالح من يمثلونهم فى المجتمع تقيد بدائلهم، أو حتى بسبب ضيق الأفق وانعدام الرؤية لما صار ممكنا وواقعيا.

 

 

 

واقعيتهم الكاذبة

 

فلنتخيل أنفسنا يوم ٢٤ يناير ٢٠١١. كيف كانت المعارضة المصرية وربما كثيرون ممن كانوا ناقمين على الوضع، تتخيل إمكانات التغيير؟ الأغلبية الكاسحة كانت ترى ما يفعله نظام مبارك بالبلاد والعباد لكنها أيضا كانت محدودة «بالاختيارات الواقعية»: مطالبة النظام بإلغاء الطوارىء، الحصول على أكبر عدد من المقاعد فى برلمان مدجن حتى وإن لزم لذلك بعض التنسيق على المقاعد مع أمن الدولة، القبول ببعض الاصلاحات هنا وهناك لأن توازن القوى لا يسمح بأكثر من ذلك، بل دافع بعض المعارضين الخلصاء عن نظرية أن مصر ليست تونس وأنه لا إمكانية لتغيير ثورى بسبب نقص التعليم والتنظيم، وبالتالى فإن المظاهرات المدعو إليها فى اليوم التالى عمل «صبياني». فهل كان الواقع فعلا لا يسمح بأكثر من ذلك؟

 

كان الواقع يسمح فى الحقيقة بثورة ٢٥ يناير التى أسقطت الديكتاتور وهزت أركان «استقرارهم» هزّا. كانت تناقضات الواقع التى تنتج فقرا وظلما ولا مساواة وانعداما فى الكفاءة وكذبا مفضوحا تنذر بالجديد لأصحاب المصلحة، وتهيء الأرض له. كانت نضالات العمال والموظفين والأطباء والمدرسين والمحامين والفلاحين تمهد الأرض على مهل وبإصرار للجديد الآتى. كانت شرعية النظام، الذى رأته بعض المعارضة مركز المجرة الذى لا يجوز الدوران إلا حوله وفى مداره، قد استنفدت رصيدها وخنقته تناقضاته فى انتظار لحظة خروج الأنفاس. وجاء ٢٥ يناير ليكشف كيف أن السماء واسعة.

 

لكن الكثيرين يأبون تعلم درس الثورة لهذا السبب أو ذاك.

 

 

 

هل يوجد أمامنا بدائل أخرى حقا؟

 

لا تحظى المسألة الاقتصادية بعشر ما تستحقه من النقاش العام. لا تأخذ قضايا معيشة الناس ودخولهم وهل يجدون وظيفة أم لا وهل يجدون الغذاء والعلاج والدفء فى الشتاء والتعليم لأبنائهم عشر مساحة ملاسنات عبدالله بدر ومحمد أبوحامد ومصطفى بكرى، ولا بعضا قليلا مما تحتله مناظرات حصص السياسيين فى المجالس والجمعيات.

 

فى المسألة الاقتصادية، يجمع كل من يصلون للحكم على أنه «لابديل» سوى استمرار النظام القديم بتقشفه وانحيازات موازناته وخططه التقشفية وبوصلته المتوجهة للمستثمرين عموما، والأجنبى المباشر منه خصوصا، على حساب أى شيء وكل شيء. هنا تظهر سياسة تجفيف البدائل فى أجلى صورها، ويتم تغييب النقاش العام فى القضية التى يتهم شعبنا الثائر بأنه لا يهتم لغيرها: أكل العيش. والسبب واضح أن البدائل عديدة وأفق الواقع مفتوح لكن الخروج عن فلك السياسات القديمة يفجر التوازن السياسى الجديد الهش.

 

فلننظر فى قرض الصندوق مثلا. من يتخذ القرار بشأنه؟ كان المجلس العسكرى وحكوماته ثم الآن حكومة الرئيس المنتخب. وجميعهم يؤكدون على ضرورته وأهميته وكارثية الرجوع عنه. لكن من يتخذ القرار حقا؟ سنجد وراء كل من ذكرناهم فريقين: الأول فريق الموظفين الحكوميين فى الوزارات المعنية، وهؤلاء مدربون ومصممون لصيانة موديل قديم لسفينة غارقة، ومتمرسون فى حماية مصالح النظام القديم. أما الفريق الثانى من أصحاب القرار الحقيقيين فهم رجال أعمال النظام القديم وحلفاؤهم من النظام القديم الذين يريدون تحويل سياساتهم القديمة إلى التزام دولى يقيدنا بديون خارجية من المنتظر أن تقفز بعشرين مليار دولار فى عام واحد لو مر القرض وتبعاته. أهمية قرض صندوق النقد أنه قرض سياسات يلخص كل شيء فى السياسة والاقتصاد، يعيد إنتاج السلطة القديمة أحيانا بنفس الوجوه ويلخص التناقض بين زقاق مصالحهم وسموات مصالحنا.

 

فى قضية القرض نواجه أناسا يقولون لنا إنه لا بديل وآخرين يقولون إن الواقع لا يسمح بإيقاف القرض. لكن الواقع فى الحقيقة يسمح بالكثير. فهناك طائفة واسعة من البدائل «الواقعية من وجهة نظر الثورة والفقراء والاقتصاد الرشيد» فى برامج المرشحين الرئاسيين وفى تصورات حملات شعبية عديدة وغيرها. وهذا ليس على مستوى التمنيات أو تفاؤل الإرادة لأن القديم صار مهلهلا وضعيفا وغير واقعى.

 

ماذا فعل قرض الصندوق فى الأردن؟ رفعت الحكومة الأسعار فى سبتمبر (نفس الشرط المطلوب منا بحذافيره) فقام الشعب وتراجع الملك. لكن الأخيرة عادت لتحاول مرة أخرى فى نوفمبر لتتحول المظاهرات هذه المرة إلى ماكان أمرا لا يمس: الملك نفسه. هذه هى التناقضات التى توسع الأفق وترفع سماء الاحتمالات وتخلق واقعا جديدا وترص قوى لم نكن نتخيل أنها موجودة وراء أهداف تبدو خيالية. فقط للنظر لما حدث عندما مررت الحكومة بليل إجراءات شبيهة بالأردن وسط جدل سياسى محتدم حول الاستفتاء على الدستور: اصطدم متخذو القرارات بواقعنا الجديد الذى لا يسمح بهذه الثورة المضادة، فقرروا تأجيله بعد ساعات قليلة.

 

وتتسع السماوات أكثر حينما ننظر للعالم. فتجارب الآخرين مليئة بالبدائل التنموية والاقتصادية المغايرة، فى آسيا وأمريكا اللاتينية. ودروس الأزمة الاقتصادية فى أوروبا وأمريكا تكشف تناقضات النظام الاقتصادى القائم على الإفقار والاستغلال وعدم المساواة وانعدام كفاءته حتى ضمن مقولاته ذاتها. وهكذا انفتحت، بفضل هذا وبالهام من ثورة العرب، باب بدائل أخرى يحارب من أجلها البسطاء.

 

هذه الثورة خلقت توازنا جديدا للقوى ذهب باستقرارهم إلى غير رجعة. هذا الآن هو الواقعى الحقيقى، وهو يعطينا ملايين البدائل والفرص الجديرة بالنضال من أجلها.

 

ببساطة: للثورة كل الخيارات الأخرى.

 

••• 

 

لنسأل جميع الأسئلة

 

ولنجمع كل الأشعة

 

ولنقف فى مدخل كل طريق

 

ولنصفّ من أشعارنا طريقا لكيلومترات طويلة

 

ولنكون أول من يتبين عدونا المقترب

 

ثم لنضرب بطبولنا

 

كى لا يبقى بلد أسير أو إنسان

 

ولا غيوم ذرية

 

ولنهب كل ما نملك من مال ومُلك وفكر وروح

 

ولتغدو أشعارنا طريق حريتنا الكبيرة

 

 

ناظم حكمت

وائل جمال كاتب صحفي
التعليقات