عن النجاح الاقتصادي والصبر في الهند - وائل جمال - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 11:12 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن النجاح الاقتصادي والصبر في الهند

نشر فى : الأربعاء 27 فبراير 2019 - 10:20 ص | آخر تحديث : الأربعاء 27 فبراير 2019 - 10:20 ص

 في 8 و9 يناير الماضي، شهد العالم أكبر إضراب عمالي في تاريخه. فقد استجاب حوالي 150 مليون عامل هندي في الصناعة والتعدين والطاقة والنقل والبنوك والخدمات العامة والتشييد والبناء والزراعة وقطاعات أخرى، لدعوة من 10 اتحادات نقابية، ليغلقوا البلاد بحضرها وريفها. كان من بين مطالب الإضراب الضمان الاجتماعي لكل العاملين وحد أدنى للأجر يقابل حوالي 213 دولاراً شهرياً وإنهاء خصخصة القطاع العام وسياسات تقليص الوظائف الدائمة والتسجيل الاجباري في إحدى النقابات العمالية في غضون 45 يوماً من التوظيف. أيضاً تضمنت مطالب العمال في مواجهة حكومة رئيس الوزراء اليميني المتطرف ناريندرا مودي الدعوة لاحتواء التضخم وتقليص البطالة وتطبيق قوانين العمل.

 

من ناحية أخرى، تستمر الأرقام والمؤشرات الاقتصادية في رسم صورة مختلفة. فبعد الإضراب بأيام توقع صندوق النقد الدولي أن ينمو اقتصاد الهند بما يتجاوز ثلاثة أضعاف المتوسط العالمي أو بحوالي 7.3 في المائة في 2019، وهو ما يتجاوز نمو الصين، وأنه سيستعيد معدلاته فوق ال 7.5 في المائة في السنوات اللاحقة. كانت الهند قد حققت متوسط معدل نمو اقتصادي 7٪ في السنوات منذ 2008-2009 في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية، و6 في المائة في العقد السابق على ذلك، وهو ما جعل منها ثاني أسرع الاقتصادات نمواً في العالم بعد الصين. "لقد أصبح نمو الهند في المدى الطويل أكثر استقراراً وثباتاً وتنوعاً ومرونة"، بحسب مدير مكتب البنك الدولي في الهند. ويتوافق ذلك مع الصورة الذهنية التي تتحدث عن معجزات الهند الاقتصادية: معدلات النمو والاندماج في سوق الخدمات العالمية والشركات الهندية في قطاع التكنولوجيا وزيادة الصادرات، إلخ. غير أن تفسير هذا التناقض يكمن في طبيعة النمو الهندي وفي أن المؤشرات كثيراً ما لا تكشف من الصورة إلا الجانب الذي يهم من يحكمون ومن يملكون.

•••

لم يستفد الكل من هذا النمو، وإن حدث فبدرجات متفاوتة للغاية. يخبرنا الاقتصاديان، أمارتيا سن وجان دريز، في كتابهما: "مجد غير مؤكد: الهند وتناقضاتها" الصادر عن جامعة برنستون، أن ثمار المعجزة الهندية ذهبت للطبقات المقتدرة سياسياً واقتصادياً، بينما واصل الملايين حيواتهم المحرومة غير المستقرة. "بينما صعدت الهند بسرعة سلم معدلات النمو الاقتصادي، سقطت نسبياً على مقياس المؤشرات الاجتماعية الخاصة بمستويات المعيشة، حتى بمقاييس دول فاقتها في النمو".

 

 الكاتبان من أهم المتخصصين في التنمية، أمارتيا سن الحائز على نوبل في الاقتصاد عام 1998، وأستاذ الاقتصاد والفلسفة في جامعة هارفارد وأحد منظري الليبراليين المساواتيين في مسائل العدالة الاجتماعية، وجان دريز وهو اقتصادي بلجيكي، كان يدرس في كلية لندن للاقتصاد، ويعيش في الهند منذ السبعينيات حتى صار مواطناً هندياً في 2002. لذا من الطبيعي أن يتجاوزا النمو ومؤشرات المالية العامة والتصدير إلى حياة الناس. يشير الكتاب لحقيقة أنه برغم كل النمو الهندي فإن مقارنة مستويات معيشة الهنود بدولة فقيرة مجاورة مثل بنجلاديش تكشف بوضوح أن الناس تحسنت حياتهم بشكل أفضل في بنجلاديش. "هناك دليل دامغ على أن تطور بنجلاديش الأسرع في مستويات المعيشة قادته النساء بفعل تعليم الفتيات وأنهن كُنّ بشكل أكبر من الهند بكثير في قلب توسع التعليم الأساسي والرعاية الصحية والخدمات العامة الأخرى".

 

كان أمارتيا سن أحد الذين اشتركوا في لجنة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الشهيرة لمراجعة النمو كمؤشر للنشاط الاقتصادي، مع اقتصاديين كجوزيف ستجليتز الحائز أيضاً على نوبل في الاقتصاد. وتسير استنتاجاته هو ودريز بالنسبة للهند في نفس الاتجاه: النمو وحده لا يكفي، بل إنه يحدث في خدمة قلة وعلى حساب البيئة والموارد ويضر بحياة الأغلبية عوضاً عن تحسينها.

 

•••

يستعرض الكتاب تفصيلياً التحولات في الصحة والتعليم واللامساواة الاجتماعية والاقتصادية في الهند، ويدعم كل استنتاجاته بملحق إحصائي منشور في نهايته، كي يخبرنا أن النمو الهندي بنمطه ذلك لم يمس اللامساواة المركبة في البلاد بل عمق منها. وبالرغم من أن معدلات اللامساواة في الدخل المحسوبة بالمناهج المتعارف عليها، بما يسمى بمعامل جيني، قد لا تزيد عن الصين أو البرازيل (معدلات لا مساواة مرتفعة)، إلا أن الكاتبين ينبهاننا إلى أن ذلك يغفل عوامل أخرى. فقد لعبت خصخصة الخدمات العامة دوراً هائلا في تعميق الكوكتيل المركب من اللامساواة في الهند: اللامساواة على أساس النظام الطبقي في الهند والذي يشمل 200 مليون شخص من المنبوذين، واللامساواة بسبب الثروة والدخل، والمتفاقمة بفعل أن التعليم والصحة صارا لمن يدفع وليس لمن يحتاج، باستثناء بعض الولايات الهندية القليلة، ويضيف الكتاب المعرفة باللغة الإنجليزية، التي هي مفتاح للترقي الاجتماعي في هذا البلد الواسع.

 

لا تدلنا مؤشرات اللامساواة والنمو المتعارف عليها على جوانب أساسية من حياة الناس. في الهند مثلا، نصف سكان بلد حقق معجزة النمو تلك يقضون حاجتهم في الخلاء أو في مراحيض عامة، لأنه لا تتوفر مراحيض في بيوتهم. هذه هي النسبة الأعلى في العالم، وتعني ما يقرب من 600 مليون شخص. وتصل النسبة إلى 10 في المائة في بنجلاديش الأفقر وواحد في المائة في الصين.

 

يضرب الكتاب مثلاً بواقعة انقطاع شامل للكهرباء حدثت في الهند في 30 يوليو 2012، ومسّت 600 مليون شخص، وهي واقعة أثارت جدلاً كبيراً وقتها حول الخدمات العامة وتراجعها. لكن ذلك النقاش العام، بحسب الكاتبين، لم يلتفت لحقيقة أن هناك 200 مليون هندي ليس لديهم كهرباء من الأصل برغم كل هذا الازدهار. وبرغم إشادة سن ودريز بمساحات الديمقراطية الهندية إلا أنهما يوردان الدليل وراء الدليل على انحيازها للفئات الأعلى في سلم القوة الطبقي بالطائفة والثروة والتعليم: إذ أن البلاد تعاني من التمييز السافر في قضايا الأقليات والنساء والنوع الاجتماعي، وهو ما زاد سوءاً بعد تولي اليمين المتطرف سدة الحكم، عقب صدور الكتاب. "إن الديمقراطية الهندية مهددة جديّا بدرجة وشكل اللامساواة الاجتماعية، بالذات إذا كانت الديمقراطية لا تعني فقط السياسات الانتخابية والحريات المدنية وإنما أيضاً التوزيع المتساوي للقوة في المجتمع". من هنا يعتبر الكتاب إن أولى الخطوات هي استعادة حيوية الخدمات العامة المعممة لجميع السكان وعلى رأسها التعليم والصحة (حيث صارا محركين لإعادة إنتاج الفوارق الاجتماعية مع تراجع الإنفاق العام عليهما)، وتوزيع أكثر عدالة للدخل والثروة.

 

•••

 

يهاجم الكتاب الصبر، مقتبساً من كتاب لجندي أمريكي في مطلع القرن العشرين يعرفه بأنه صورة من صور اليأس يتخفى كفضيلة، ويدعو للاحتجاج، للضغط من أجل تعديل النمط الاقتصادي كي يلتفت للكيفية التي يعيش الناس بها بالفعل. وهاهم الهنود يحتجون، قبل 4 شهور من الانتخابات العامة في مايو المقبل، إذ أن برامج الدعاية وانفوجرافات المؤشرات الاقتصادية الملونة على صفحات الفيسبوك الحكومية، وتقارير خبراء المنظمات الدولية التي تؤكد النجاح الاقتصادي منقطع النظير، لا تستطيع إقناع شخص بأنه يعيش بشكل أفضل إذا كان لا يعيش بشكل أفضل، فما بالنا إذا كان دخله يتراجع وحياته تئن تحت وطأة الغلاء واللامساواة وتحويل الدولة كشركة تُغَلِّب منطق: ادفع كي تحصل على الخدمة العامة.

 

 

جان دريز وأمارتيا سن، مجد غير مؤكد: الهند وتناقضاتها، نيو جيرسي، الناشر: جامعة برنستون، 2013، 448 صفحة.

 

Jean Drèze and Amartya Sen, An Uncertain Glory India and its Contradictions, New Jersey, Princeton University Press, 2013, 448 pages.

 

وائل جمال كاتب صحفي
التعليقات