من ينتجون ومن يأخذون في الاقتصاد - وائل جمال - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 2:55 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من ينتجون ومن يأخذون في الاقتصاد

نشر فى : الثلاثاء 15 يناير 2019 - 11:50 م | آخر تحديث : الثلاثاء 15 يناير 2019 - 11:50 م

 

شهد عام 2015 زيادات قوية في دخول قيادات البنوك الخاصة في مصر وصلت إلى 13 في المائة في بعضها، بينما أوقف تحديد الحد الأقصى للأجر (قبل إلغائه لاحقاً) نمو دخول قيادات البنوك العامة لتتوقف عند 42 ألف جنيه شهرياً. وبلغ متوسط دخول العشرين مديراً الأعلى في بنك فيصل الإسلامي (الأعلى بحسب المسح الذي أجرته جريدة المال)، حوالي 165 ألف جنيه شهرياً، والمتوسط هنا قد يعني وجود مديرين يتقاضون أعلى من هذا الرقم من بينهم ووجود من يتقاضون أقل. في عام 2015 ذاته، كان إنفاق 1600 جنيه شهرياً يقفز بالمواطن المصري إلى مصاف العشرة في المائة الأعلى دخلاً في البلاد، بينما كان حوالي 9 ملايين مصري ينفقون 300 جنيهاً فأقل شهرياً، بحسب أرقام مسح الدخل والإنفاق الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.

هذا التفاوت الجبار لا يقتصر على مصر وعادة ما يتم تبريره بالأرباح التي يحققها القطاع، والتي تزيد في مصر وفي العالم كله، ومعها تزيد رواتب ودخول العاملين به، بالذات لمن يقبعون على قمته. في مصر مثلاً، حققت البنوك العاملة في البلاد أرباحاً تقدر بحوالي 48.5 مليار جنيه في التسع شهور من يناير حتى سبتمبر 2018، بلغ نصيب العاملين فيها منها حوالي 4.85 مليار جنيه. بالطبع، يرجح أن أنصبة القيادات العليا منها فاق بشدة أنصبة الموظفين الصغار.

 

يبدو الأمر منطقياً للغاية: مؤسسات ناجحة تتحمل المخاطر وتحقق أرباحاً، ومديرون منتجون يقودونها لذلك فيأخذون مكافأتهم "العادلة" على حسن أدائهم. تتساءل الاقتصادية الإيطالية ماريانا مازوكاتو في أحدث كتبها الصادر في 2018، والذي ترشح للقائمة القصيرة لجريدة الفاينانشيال تايمز، "لكن ماذا لو أن هذه التوصيفات ببساطة قصص فحسب؟ خطاب يتم صياغته من أجل تبرير التفاوتات في الدخل والثروة، رواية تكافئ بشكل هائل القلة القادرة على إقناع الحكومات والمجتمع بأنها تستحق هذه المكافآت الكبيرة بينما على بقيتنا أن يقتاتوا بالبقايا؟".

في عالم تتصاعد فيه اللامساواة في الدخل والثروة، وتزيد فيه أهمية الأنشطة المالية على حساب الاقتصاد الحقيقي في الصناعة والزراعة، تعيد مازوكاتو في كتابها الاعتبار لسؤال القيمة في الاقتصاد.. من يخلقها وكيف تتوزع، من يدورها ويحركها من قطاع لآخر ومن يعيشون بشكل طفيلي على عمل الآخرين (كأصحاب الأراضي من الأرستقراطية وقتها)، وهي الأسئلة المركزية التي ركز عليها الاقتصاديون الرواد كآدم سميث وديفيد ريكاردو وكارل ماركس. تشتبك الأكاديمية، التي تُدَرِّس اقتصاديات الابتكار والقيمة العاملة في لندن، مع هذا السؤال في عالمنا المعاصر: من ينتج ومن يحصد؟ وعواقب ذلك. مازوكاتو الحائزة على جوائز عدة من ضمنها جائزة ليونتيف لتوسيعها آفاق الفكر الاقتصادي، والمستشارة حاليا لعدد من الحكومات، كانت قد أثارت ضجة كبيرة قبل أعوام بعد إصدارها كتابها السابق عن الدور الريادي للدولة في الابتكار، والذي تكشف فيه مساهمة المال العام الكبيرة في الابتكارات التكنولوجية، التي تسمح لشركات مثل أبل بتحقيق مليارات الدولارات من الأرباح.

 

في 2009، بعد عام واحد من مساهمة مؤسسات كمؤسسته في اندلاع الأزمة المالية، قال لويد بلانكفاين رئيس بنك جولدمان ساكس إن موظفيه هم من بين الأكثر إنتاجية في العالم. (كانت الحكومة قد اضطرت للتدخل بضخ مليارات الدولارات لدعم جولدمان ساكس وغيره من أموال دافعي الضرائب، بينما تخلصت الشركة من 3 آلاف موظف خلال عامين).  تتحدى مازوكاتو فكرة الإنتاجية المرتفعة التي يتحدث عنها رئيس جولدمان ساكس، الذي ارتفعت مكافآته هو ونظرائه برغم كل شيء. وهي فكرة لا تقتصر على القطاع المالي. "يسمونها خلق القيمة لكنها في الحقيقة العكس، محض استخلاص للقيمة". يشير الكتاب هنا إلى أن القطاع المالي لم يكن يعد قطاعاً منتجاً في الاقتصاد في الحسابات القومية والناتج المحلي الإجمالي حتى عام 1970، بل كانت أهميته تنبع فحسب من تسهيله لعملية تراكم رأس المال ونقل الثروة الموجودة بالفعل، لا خلق ثروة جديدة. ثم تسلل القطاع المالي لحساب الناتج المحلي كناتج وسيط، أولاً كخدمة تساهم في تشغيل الصناعات الأخرى، الخالقة حقاً للقيمة، ثم تغير الوضع محاسبياً بالتزامن مع تغير السياسات بتقليص القيود على أنشطته والكم الذي يستطيع إقراضه والنقود التي يخلقها.. إلخ. "هذه التعديلات غيرت جذرياً كيف يتصرف القطاع وزادت من نفوذه على الاقتصاد الحقيقي".

تجول مازوكاتو في كتابها بين قطاعات الأدوية والمال والتكنولوجيا وفي نظريات الاقتصاد المختلفة المتعلقة بالقيمة تاريخياً كي تثبت مقولتها الرئيسية بأن هذه القطاعات تستخلص القيمة في الاقتصاد وتتلقى عوائد مبالغ فيها بشدة عوضاً عن خلق القيمة.

يضرب الكتاب مثلاً بشركة جلياد للأدوية التي سَعَّرَت دواء هارفوني لفيروس سي في 2014 بحوالي 95 ألف دولار لكورس علاجي مدته 3 شهور. كان تبرير الشركة وقتها أن تقاضي هذا الثمن يوازي القيمة التي يتسبب الدواء في تجنبها من تكاليف المرض لو لم يتم علاجه، وهو ما تسميه صناعة الأدوية "التسعير المبني على القيمة". ترد مازوكاتو على ذلك بعديد من الدراسات التي تؤكد عدم وجود أي علاقة بين سعر أدوية السرطان وغيرها وبين المنافع التي توفرها، التي هي أقل بما لا يقاس من السعر حتى بمنطق تكاليف المرض. "في الحقيقة فإن نسبة كبيرة من تكاليف الرعاية الصحية في العالم الغربي لا علاقة لها بالرعاية الصحية: ببساطة هي قيمة استخلاص القيمة التي تقوم به صناعة الأدوية".

لكن الأمر لا يتوقف عند زيف رواية الكفاءة والإنتاجية كمبرر لكل هذه العوائد الهائلة. فالطريقة التي تشتغل بها قطاعات استخلاص القيمة، عبر الاستثمار في الأوراق المالية والمشتقات وإعادة شراء الأسهم، وهي أنشطة ريعية، ينطبق عليها وصف الاقتصادي الأشهر جون ماينارد كينز للمستثمرين فيه: "مستثمر عاطل يعتمد على ملكيته لرأس المال مستغلاً قيمة ندرته". في المقابل، بينما شهد الاقتصاد الأمريكي، مثلاً، زيادة في الإنتاجية بين 1975 و2015 بأكثر من ستين في المائة، تجمدت الأجور الحقيقية لمعظم الأمريكيين أو حتى انخفضت في الفترة ذاتها.

مازوكاتو تقول إن سيطرة منطق التمويل وروايته الكاذبة عن خلق القيمة لا يتعلق فقط بحجم القطاع المالي وكيف فاق نموه الاقتصاد غير المالي، وباللامساواة في الدخل والثروة، وإنما أيضاً بآثاره على سلوك باقي الاقتصاد، الذي تم أمولة وتوريق أجزاء كبيرة منه. تركز النشاط في القطاعات التي تحرك القيمة وتستخلصها على حساب القطاعات التي تخلقها.  

"بينما يتم خلق الثروة عبر جهد جماعي، فإن عدم التوازن الهائل في توزيع ثمار النمو الاقتصادي عادة ما كان نتيجة لاستخلاص القيمة الذي وسعت العولمة بشدة من نطاقه". تقول مازوكاتو إن هذا وضع يقود الرأسمالية العالمية لأزمة وراء أزمة، وإن إعادة الاعتبار للقطاعات التي تخلق القيمة ومواجهة الاحتكارات وتدخل الدولة لدعم الأنشطة المنتجة والتنازل عن سياسات التقشف هي شروط ضرورية لاستعادة "رأسمالية تعمل من أجل الجميع". إلا أن الكتاب لا يشرح كيف يمكن للدولة، وهي الآن ساحة لسيطرة هذه القطاعات المالية والاحتكارية عبر لوبيهات المصالح، خاصة وأنها تمثل أكبر مقرضيها عبر أذون وسندات الخزانة، أن تتحدى مصالحها وتواجهها، ناهينا عن أن يتبرع هؤلاء المستفيدون بالتنازل عن حصة من عوائدهم.

 

"من يروي الحكاية يحكم العالم"، تستشهد مازوكاتو بمقولة الفيلسوف الإغريقي أفلاطون في الإشارة للرواية التي تبرر للطفيليين من صائدي الريع جوائزهم على حساب الناس. وكتابها يتحدى هذه الرواية ويكشف تهافتها.

 

 

ماريانا مازوكاتو، قيمة كل شيء: من يخلقون ومن يأخذون في الاقتصاد العالمي، لندن، دار النشر: بنجوين: 2018، 384 صفحة.

 

Mariana Mazzucato, The Value of Everything: Making and Taking in the Global Economy, London, Penguin, 2018, 384 Pages.

 

وائل جمال كاتب صحفي
التعليقات