المحتكرون يحكمون - وائل جمال - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 8:51 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المحتكرون يحكمون

نشر فى : الأربعاء 12 ديسمبر 2018 - 12:10 ص | آخر تحديث : الأربعاء 12 ديسمبر 2018 - 12:18 ص

لا رأسمالية دون منافسة. هذه المقولة الثابتة في أي كتاب مدرسي أو غير مدرسي يقدم للاقتصاد صارت اليوم محل تشكك. فبدلاً من الأفكار التي تقول إن المنافسة أساس الكفاءة والحافز على الابتكار وإنه في ملعبها يبين الحق من الباطل فتتعدد الاختيارات أمام المستهلك وتنخفض الأسعار ويزدهر الاقتصاد، هناك من يقول الآن إن "الكبير جميل" والسيطرة على الأسواق ليست فقط حقيقة واقعة وإنما هي شرط للكفاءة والنجاح. فتنبهنا هذه الفقرة من أحد كتب الاستثمار الشعبية في الولايات المتحدة قبل الأزمة في 2008، بعنوان: "قواعد الاحتكار: كيف تجد وتستحوذ وتسيطر على أكثر الأسواق ربحية في أي قطاع" أنه "من الغالب أنك تعلمت أن الاحتكارات غير طبيعية، وغير قانونية ونادرة. خطأ! خطأ! خطأ! في الواقع، الاحتكارات هي عادة أمر طبيعي وقانوني، ومنتشرة بشكل مدهش".

 

غير أن البعض مازال يختلف مع هذا التقدير المتحمس. ففي كتابهما الصادر الشهر الماضي، والذي نال بالفعل ثناء عدد كبير من الاقتصاديين الحائزين على جائزة نوبل في الاقتصاد وغيرهم من اليمين واليسار بقائمة تضم المؤرخ نيال فيرجسون جنباً إلى جنب مع الاقتصادي اليوناني اليساري يانيس فاروفاكيس، يرسم جون تيبير ودينيس هيرن صورة قاتمة لتصاعد نفوذ الاحتكارات في الاقتصاد الأمريكي وسيطرتها على الأسواق.  الكاتبان ينتميان حالياً لمؤسسة بحثية استشارية ترعى مديري الأصول، وأولهما له تاريخ كمحلل في بانك أوف أمريكا ومؤسسات مالية أخرى، وهما بالتالي يقفان على أرضية صديقة للنظام الاقتصادي المهيمن على العالم.

***

يبدأ الكتاب بحادثة على شركة طيران يونايتد الأمريكية في أبريل 2017، حين أصر مسؤولوها على استبعاد أحد المسافرين بينما أصر هو على السفر، فأخرجوه مسحولاً ينزف من الطائرة. أجبر فيديو للحادثة، انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، الشركة على الاعتذار والتسوية بعد أن كان رد الفعل الأول لرئيسها غير ذلك. كان من المنتظر أن تؤدي الحادثة لهبوط أسهم الشركة وتراجع المسافرين عن استخدام طائراتها. لكن العكس هو الذي حدث. بل ارتفعت الأسهم بعد أن اكتشفت السوق بفعل الحادثة أن المسافرين ليس لديهم خيار بفعل وضعية الشركة المسيطرة ضمن احتكار القلة لقطاع الطيران الأمريكي. فالشركة التي حققت أرباحاً بقيمة 2.3 مليار دولار في 2016، تتحكم في الحصة الغالبة من السوق في 40 مطاراً من بين حوالي المائة في الولايات المتحدة (60 في المائة في مطار هيوستون و51 في المائة في نيو آرك و43 في المائة في مطار دلس بواشنطن). الأمر نفسه ينطبق على شركة دلتا وغيرها. وبينما يقول الكاتبان إن هذه الشركات تتفق معاً كي تستبعد الداخلين الجدد فإنه "لم يعد أمام المسافرين خيار".

يرصد الكتاب ويحلل تطور الاحتكارات وتوسعها المضطرد في الاقتصاد الأمريكي على مدى العقود الماضية، ليرسم صورة تختلف كثيراً عن الصورة السائدة: شركتان تسيطران على سوق البيرة، أربع شركات طيران تهيمن على حركة المطارات بينما الاحتكار الثنائي هو القاعدة في كل مطار، خمسة بنوك تتحكم في نصف الأصول المصرفية في الاقتصاد الأمريكي، كل أسواق الإنترنت فائق السرعة في الولايات احتكارات محلية، و75 في المائة من العائلات ليس أمامهم إلا مقدم خدمة واحد، أربعة منتجين يتحكمون في سوق اللحوم، وبعد اندماجين هذا العام ستتحكم ثلاث شركات في سوق المبيدات العالمية و80 في المائة من سوق بذور الذرة الأمريكية. والقائمة طويلة.

***

ومن بين رموز الرأسمالية الأمريكية المعاصرة يمثل وارن بافت وبيتر تيل هذا النموذج برغم كل شيء. فالأول وهو من أغنى أغنياء العالم، عادة ما يتم تقديمه على أنه الثري العصامي الذي لم تتغير عاداته، بل وأحياناً ما يقدم رؤى نقدية، والثاني هو ممثل لكل نظريات الابتكار وريادة الأعمال في وادي السيليكون الشهير وهو مؤسس باي بال وأحد المستثمرين في فيسبوك. فالأول معروف، بحسب الكتاب، بأنه لا يستثمر سوى في الشركات التي تمتلك أوضاعاً احتكارية أو مسيطرة في السوق. والثاني، على عكس كل النظريات يدافع مباشرة عن الوضعيات الاحتكارية ويقول إنها شرط مباشر للابتكار، الذي يحتاج لاستثمارات كبرى وشركات ذات حجم هائل.

"الرأسمالية التي نراها اليوم في الولايات المتحدة أبعد ما يكون عن الأسواق التنافسية"، بحسب ما يقول الكاتبان. لكن هذا الوضع ليس قاصراً على الاقتصاد الأمريكي. "فعبر العالم، ينتاب الناس إحساس بأن هناك شيئاً خطأ، مما يقود إلى مستويات قياسية من الشعبوية في الولايات المتحدة وأوروبا، وإلى تراجع التسامح ورغبة في قلب النظام القائم. اليمين واليسار لا يستطيعان الاتفاق على تعريف المشكلة لكنهما يعرفان أن هناك شيئاً عفناً"، كما يقول الكتاب مشيراً إلى أن الحديث يجب أن يكون عن احتكار القلة وليس الاحتكار المنفرد.

***

قبل أيام في مصر، ألغى جهاز حماية المنافسة عقود توزيع شركات أبل الأمريكية في مصر بسبب قيامهم بالاتفاق على عزل السوق المصري جغرافيًّا من عوامل المنافسة البينية وحظر الاستيراد الموازي وعقد اتفاقات توزيع حصرية بالمخالفة للمادة 7 من قانون حماية المنافسة، وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعار منتجات شركة أبل في مصر بصورة غير مبررة تفوق أسعار ذات المنتجات في دول الشرق الأوسط كالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ودولة الكويت وكذا الولايات المتحدة الأمريكية. وقبلها حقق الجهاز في قضايا تتعلق بشركتي أوبر وكريم للنقل وسيطرة شركة بي إن سبورت على بث المباريات تليفزيونياً. الاحتكار ظاهرة مصرية أيضا. لكنها ليست قاصرة وليست أساساً متعلقة بشركات أجنبية كبرى، بينما تتضاءل قوة الجهاز القانونية والفعلية أمام جهاز مكافحة الاحتكارات الأمريكي، الذي يثبت الكتاب عدم قدرته برغم كل إمكاناته على مواجهة الاحتكارات. فيقول الكتاب إن الشركات الاحتكارية في أمريكا باتت تتحكم في المشرعين ومنظمي السوق. وفي مصر، بَرَّأ الجهاز سوقي الأسمنت والحديد من تهم الممارسات الاحتكارية (كان الجهاز قد فرض قبل سنوات غرامات بعشرة ملايين جنيه على مسؤولي شركات الأسمنت بعد ثبوت تلاعبهم في الأسعار، بعد أن كانت الشركات قد حققت أرباحا ً بالمليارات على مدى سنوات).

لا تقلل الاحتكارات فقط من اختيارات المستهلكين، وتحدد الأسعار بأعلى من قيمتها فيما يسميه الاقتصاديون "تشوهات الأسعار"، وإنما بالأساس تضمن معدلات ربحية مرتفعة جداً لمن يملكون أسهم الشركات المحتكرة على حساب مستويات معيشة الأغلبية. ليس هذا فقط بل إنها تسببت، بحسب الكتاب، في استثمارات أقل، وحركية اقتصادية أضعف، وشركات جديدة أقل، وأسعار أعلى لمبيعات الشركات المهيمنة، وأجور أقل، ولا مساواة متفاقمة في الدخل والثروة. و"تتدفق الأدلة على ذلك من الدراسات الاقتصادية كالفيضان". بل إن الكاتبين يعتبران جزءاً كبيراً من النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة نتاجاً لتلاعب القلة المحتكرة في البورصات من خلال عمليات إعادة شراء الأسهم وغيرها.

 

***

وتحذرنا مدير عام صندوق النقد الدولي كريستين لاجارد، في خطاب لها في مكتبة الكونجرس قبل أيام، من أنه مع حلول عام 2040، يمكن أن تصل اللامساواة إلى مستويات تفوق ما كانت عليه في "العصر المذهَّب". فالاحتكارات القوية في مجال التكنولوجيا والحكومات الضعيفة ذات السياسات المحلية غير فعالة تجعلان النجاح مستحيلاً بالنسبة للمشروعات البادئة ورواد الأعمال. والإنجازات المحققة في المجال الصحي يمكن أن تتيح للأغنياء الأكثر ثراءً أن يعيشوا إلى عمر يتجاوز المائة والعشرين عاماً، بينما يرزح الملايين تحت وطأة الفقر المدقع والمرض."

كتاب تيبير وهيرن، المختار من الفاينانشيال تايمز كأحد أهم كتب الاقتصاد خلال السنة الحالية، يقول إن هذه ليست إلا نسخة مزيفة من الرأسمالية "الحقة"، داعياً لسلسلة إجراءات تفَعِّل قوانين مكافحة الاحتكار وتقوي أجهزتها لاستعادة ما يعتبره روح الحرية الرأسمالية. يستشهد الكتاب بالبيان الشيوعي لكارل ماركس وفريدريك إنجلز منتقداً إياه بالقول إن الملكية الخاصة قد انتصرت، وإن الرأسمالية برغم بعض حقبها المظلمة "هي أفضل ما لدينا"، لكن كل ما يرصده الكتاب هو شرح مفصل لما أسماه الأول "تركيز وتركز رأس المال" كسمة أساسية للرأسمالية، حيث يفرض تطورها وأزماتها المتوالية أن تصبح وحدات تراكم رأس المال، الشركات، أقل في العدد وأكبر في الحجم، وأكثر شراسة في اقتناص الأرباح على حساب كل شيء وأي شيء.

 

 

وائل جمال كاتب صحفي
التعليقات