هل تستطيع الدول الأوروبية زيادة إنفاقها الدفاعي؟ - مواقع عربية - بوابة الشروق
السبت 5 يوليه 2025 1:08 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من أفضل فريق عربي في دور المجموعات بمونديال الأندية؟

هل تستطيع الدول الأوروبية زيادة إنفاقها الدفاعي؟

نشر فى : الجمعة 4 يوليه 2025 - 7:25 م | آخر تحديث : الجمعة 4 يوليه 2025 - 7:25 م

تشهد الساحة الدولية تصعيدا أمنيا منذ فترة غير قصيرة؛ ما دفع حلف الناتو إلى مراجعة عميقة لأولوياته الدفاعية، لا سيما فى ضوء التهديد الروسى المتزايد. وفى هذا السياق، برز هدف رفع الإنفاق الدفاعى الأطلسى والأوروبى إلى 5% من الناتج المحلى، متجاوزا سقف 2% المعتمد منذ 2006. وقد شكَّلت قمة حلف الناتو فى لاهاى فى 24 و25 يونيو 2025، وبمشاركة 32 دولة عضوا محطة حاسمة لترجمة هذا التحول؛ حيث تعهدت دول الحلف بإنفاق 5% من إجمالى ناتجها المحلى على الدفاع والأمن بحلول 2035، بحسب البيان الختامى لقمة الناتو فى لاهاى الهولندية، لكن هذه الطموحات ما زالت تصطدم، أوروبيا، بتحديات مالية وسياسية وهيكلية.

• • •

جاء هذا التحوُّل نحو رفع الإنفاق الدفاعى الأطلسى والأوروبى من جراء جملة من الدوافع الاستراتيجية والسياسية حملت الاتحاد الأوروبى على إعادة تقييم موقعه فى معادلة الردع الدولية:

1– ممارسة إدارة ترامب ضغوطا غير مسبوقة: أعاد دونالد ترامب منذ عودته إلى البيت الأبيض تصويب أولويات حلف شمال الأطلسى، معتبرا أن الإنفاق الدفاعى الأوروبى لا يزال دون المطلوب رغم التهديدات المتزايدة، وطارحا رفع هذا الالتزام المالى إلى 5%. هذه الضغوط لاقت تجاوبا تدريجيا، خصوصا بعد الحرب الأوكرانية وتصاعد التوترات على الجبهة الشرقية؛ فوفق تقديرات الناتو، ارتفع عدد الدول الملتزمة بسقف 2% من 10 دول فقط فى عام 2023 إلى 23 دولة فى عام 2024، فى مؤشر على أن جزءا كبيرا من التحول يجرى بالفعل.

2– التحول الجيوسياسى بسبب روسيا: ترى عدة تقارير استخباراتية أن روسيا قد تُقدم على اختبار مباشر لصلابة حلف الناتو خلال السنوات الخمس المقبلة عبر مهاجمة إحدى الدول العضوة فيه؛ ما دفع الأمين العام للناتو مارك روته، إلى تأكيد أن الرد يجب أن يكون عبر تعزيز الإنفاق العسكرى الأوروبى. ولقد كشف التهديد الروسى المتصاعد على حدود الاتحاد الأوروبى، خاصة بعد غزو أوكرانيا، هشاشة القدرات الدفاعية الأوروبية بعد عقود من التراجع عن التسلح.

3– الخوف من التهديدات المركبة: لم تعد التهديدات الأمنية محدودة المصدر، بل باتت متعددة ومترابطة. وتواجه أوروبا اليوم فى آن واحد تصعيدا روسيا، وتداعيات محتملة لحرب مفتوحة بين إسرائيل وإيران، وتحالفا استراتيجيا متسارعا بين روسيا وكوريا الشمالية. هذا ما يدفع بعض دول الناتو الأوروبية إلى تبنى خطاب الجاهزية الشاملة كأداة دفاع وقائية. وقد أبرزت الخطة المقترحة لتوزيع الإنفاق (3.5% للدفاع و1.5% للبنية) أن التهديدات المعاصرة تتطلب أيضا تحصينا مدنيا ومرونة لوجستية، من خلال تحسين الجسور، والسكك الحديدية، والاتصالات، والدفاعات السيبرانية.

• • •

يعكس التوجه نحو رفع الإنفاق الدفاعى تحديات أوروبية كامنة، تعيق ترجمة الأهداف المعلنة إلى خطوات فعلية:

1– تسبب رفع الإنفاق الدفاعى فى ضغوط داخل دول أوروبية محورية: تُواجه بعض الدول الأوروبية صعوبات مزدوجة تجمع بين العجز المالى المزمن والرفض السياسى – الاجتماعى لرفع الإنفاق الدفاعى؛ ففى بلجيكا، يلامس العجز المالى 5% من الناتج القومى؛ ما دفع وكالة «فيتش» إلى خفض تصنيف البلاد الائتماني، فيما حذرت بعض الدراسات من أن بلوغ نسبة 5% فى المجال الدفاعى قد يرفع العجز إلى 60 مليار يورو بحلول 2029 ما لم يُقرن بتقشف مؤلم أو زيادات ضريبية لا شعبية. أما فى إسبانيا، فقد بدا أن ثمة رفضا من جانب رئيس الوزراء بيدرو سانشيز على اعتبار أنه يهدد برفع الضرائب على الطبقة الوسطى وتقليص الخدمات الاجتماعية. وبالرغم من تراجع إسبانيا عن هذا الرفض، وموافقتها خلال قمة الناتو على رفع الإنفاق، فإن ثمة شكوكا لا تزال قائمة حول قدرتها على تحقيق هذا الهدف، خصوصا أن الإنفاق الدفاعى الإسبانى لا يتجاوز 1.28% حاليا.

2– مواجهة الدول الأوروبية صعوبات مالية وهيكلية: رغم الطابع السياسى الضاغط لمطلب 5%، تُواجه الحكومات الأوروبية صعوبات بنيوية فى تلبية هذا السقف، فى ظل هشاشة المالية العامة وقيود قوانين التقشف؛ فوفق تقديرات موثقة، تحتاج دول الاتحاد الأوروبى الأعضاء فى الناتو إلى جهد إضافى قدره 544 مليار يورو لبلوغ النسبة المطلوبة. وتتصدَّر كلٌّ من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا قائمة الدول التى ستتحمل الكلفة الأكبر فى الموازنة الدفاعية.

3– معضلة استعداد القاعدة الصناعية الدفاعية الأوروبية: تشكو أوروبا من ضعف فى إنتاجها الدفاعى مقارنةً بروسيا؛ ما يعنى أن رفع الميزانيات قد لا يترجم تلقائيا إلى تعزيز فعلى للقدرات؛ فقد نشر معهد «كيل» الألمانى ومركز «بروجل» البلجيكى، فى يونيو 2025، تقريرا مفصّلا من مائة صفحة يُظهر أن القوى الأوروبية الكبرى، ومنها المملكة المتحدة، متأخرة بشدة عن روسيا من حيث حجم وتطور العتاد العسكرى؛ ففى عام 2024 وحده، أنتجت موسكو 1800 دبابة قتال، مقابل 50 فقط مجتمعة فى فرنسا وألمانيا وبريطانيا وبولندا؛ أى بمعدل إنتاج يفوق الأوروبيين بـ36 مرة. هذا التأخر الحاد يشمل أيضا الذخائر والأنظمة الثقيلة.

4– تعقيدات التشريع والرقابة البرلمانية على الميزانيات الدفاعية: تُعد البنى الدستورية لبعض الدول الأوروبية عاملا معيقا فى تبنِّى زيادات فورية فى الإنفاق الدفاعى؛ حيث تتطلب الموازنات العسكرية اعتمادا تشريعيا يمر بمراحل رقابية معقدة. فى دول مثل ألمانيا وإسبانيا وهولندا، يُخضع البرلمان أى تعديل فى السياسة الدفاعية لنقاشات تفصيلية، وغالبا ما يكون فيها انقسام حزبى واضح، كما أن بعض الحكومات الائتلافية قد تجد صعوبة فى توحيد الصفوف داخل الائتلاف نفسه عند التصويت على ميزانيات تتعلق بالتسلُّح أو التموضع العسكرى الخارجى. هذه الاعتبارات تزيد من تعقيد المسار السياسى الداخلى، وتجعل من الخطط الدفاعية الأوروبية رهينة توازنات حزبية دقيقة يصعب تجاوزها خلال الأزمات.

• • •

فى مواجهة العوائق القائمة، تلوح أمام أوروبا مسارات متعددة قد تساعدها على تجاوز حدودها التقليدية فى الإنفاق الدفاعى:

1– تقسيم الإنفاق الدفاعى بين التسلُّح والبنية التحتية: طرحت بعض الجهات الأوروبية خيارا لتقسيم نسبة 5% المستهدفة فى الإنفاق الدفاعى إلى 3.5% تُخصص لتطوير القدرات العسكرية والعتاد، مقابل 1.5% تُوجَّه إلى البنية التحتية ذات الاستخدام المزدوج، مثل شبكات النقل المخصصة لنقل العتاد، وتطوير المنشآت اللوجستية. ويُنظر إلى هذا الطرح كحل برجماتى يُسهم فى تليين المعارضة الداخلية.

2– تمديد الآجال الزمنية للوصول إلى سقف 5% على مراحل: أدركت المفوضية الأوروبية وبعض الأطراف داخل الناتو أن فرض التزام فورى بنسبة 5% قد يكون غير واقعى؛ لذلك يجرى النقاش حول اعتماد روزنامة مرحلية، تتدرج فى رفع النسبة على مدى يتراوح بين 7 و10 سنوات.

3– استخدام التهديدات الأمنية كأداة سياسية داخلية: تعمد عدة حكومات أوروبية إلى تبرير توجهها نحو زيادة الإنفاق الدفاعى باستخدام التحوط للتصعيد الأمنى كأداة لإقناع الرأى العام والبرلمانات الوطنية؛ فالتوتر مع روسيا، والمواجهة الإسرائيلية – الإيرانية، وخطر الحروب السيبرانية، كلها تُقدَّم كأدلة على حاجة أوروبا إلى رفع جاهزيتها الدفاعية. فى هذا السياق، لم يعد الحديث عن 5% مرتبطا فقط بالاستجابة للضغوط الأمريكية، بل بات مطروحا كشرط للبقاء السياسى والأمنى فى ظل واقع دولى يزداد اضطرابا.

ختاما، تشهد أوروبا منذ عام 2022 طفرة غير مسبوقة فى وتيرة الإنفاق الدفاعى، جعلتها من المناطق الأسرع نموا فى هذا المجال عالميا. ورغم أن مجمل ما تنفقه دول الاتحاد مجتمعة يفوق ما تنفقه روسيا، فإن تحقيق قدرة دفاعية فعلية يظل رهنا بحسن التوظيف والتنسيق المشترك. ويمكن القول أخيرا، إن حجم الإنفاق وحده لا يصنع الردع، ما لم يُترجَم إلى استقلالية استراتيجية وقرار سياسى موحد؛ فالتحدى الأساسى أمام الأوروبيين لا يقتصر على المال والسلاح فقط، بل يكمن فى بناء استراتيجية موحدة بدل الاستمرار فى التردد والانقسام.

نوار الصمد

موقع إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

النص الأصلي 

التعليقات