العروبة على الطريقة الأمريكية - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 5:27 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العروبة على الطريقة الأمريكية

نشر فى : الأربعاء 18 مارس 2009 - 8:06 م | آخر تحديث : الأربعاء 18 مارس 2009 - 8:06 م

 ربما يكون البعض قد صدم من قراءة الموضوع الممتع الذى كتبه الأستاذ جميل مطر على صفحات «الشروق» يوم السبت الماضى، وليس فى نيتى أن أذكر القارئ بمحتوى ذلك الموضوع، فهو أمر تضيق به هذه السطور، لكن جوهره انبثق من فكرة مؤداها أن الأمريكيين وبعض حلفائهم فى المنطقة العربية، وكذلك تركيا عادوا يكتشفون «سحر العروبة» بمعنى «أنه لا يوجد ما يضمن حماية المنطقة مما يسمى بالتغلغل الإيرانى أشد مفعولا من الانتماء للعروبة»، وأن الإيرانيين «لم يخترقوا المنطقة العربية إلا بسبب الفراغ الذى خلفه إفراغ الساحة العربية من عروبتها»، وفى ظل «غياب عروبة مصر وإصرار الحكم فيها على الانعزال بحجج متعددة» ليس ثمة مفر من «ضرورة إحياء حزب البعث» بمباركة أمريكية وغربية، بل ومن قبل دول عربية حليفة أو صديقة للولايات المتحدة، ودور سورى هو القادر على إعادة تقديم العروبة «فى شكل يروق للغرب».

وجه الصدمة فيما سبق، أن البعض سوف يستنكر بشدة أن تكون قوى قومية لها تاريخها ألعوبة بيد الولايات المتحدة أو غيرها، أو على الأقل شريكة لها فى عمل ذى طبيعة إستراتيجية يستهدف دولة هى بكل المعايير أقرب لنا من الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة. وبغض النظر عن مدى دقة الآراء التى نقلها الأستاذ جميل مطر عن أصحابها بأمانة فائقة فإن لها منطقها الخاص، وهو منطق لا يبدو غريبا عن طبيعة السياسة التى لا تقوم إلا على لغة المصالح، ولا تجوز مناقشتها علميا إلا من هذا المدخل.

ولو صح التصور الإستراتيجى الجديد للمنطقة الذى عرضه الأستاذ جميل مطر فلن تكون هذه هى السابقة الأولى، ولعلنا نستطيع أن نسوق سابقة مهمة فى السياق نفسه، وهى مواجهة احتمالات تمدد نفوذ الثورة الإيرانية بعد عام1979. فى تلك المرحلة نشأ تصور أمريكى مشابه مؤداه أن القوة الوحيدة الكفيلة بمواجهة الثورة الإيرانية وتداعياتها هى قوة العروبة أيضا، ولما كان صدام حسين آنذاك هو حامل لواء هذه العروبة فقد بدأ الاستعداد لدعمه ــ أو لدفعه ــ كى يقوم بهذا الدور، وقد كنت فى الولايات المتحدة فى ذلك الوقت فى مهمة دراسية «1979ــ 1980»، وتابعت بنفسى الحملة الإعلامية الأمريكية المنظمة من أجل «تلميع» صدام حسين باعتباره قائد العرب الجديد، والوحيد القادر على ملء الفراغ الذى خلفه رحيل عبدالناصر، وكانت الصورة الوحيدة المعتمدة تقريبا لصدام حسين فى وسائل الإعلام الأمريكية من أكثر صوره وسامة تظهره صاحب ابتسامة عريضة ووجه مشرق، فيما كانت صور الخومينى شديدة القتامة والجهامة.

هكذا التقت المصلحة الأمريكية حينذاك مع العروبة ممثلة فى صدام حسين، فالأولى كانت ترى فيه الجدار الوحيد القادر على صد موجات انتشار أفكار الثورة الإيرانية، وهو كان يعتبر نفسه صاحب قضية حقيقية تتمثل فى منع تغلغل إيران فى العراق وهيمنتها على النظام العربى ككل، وقيل إن جزءا من الخطة الأمريكية تمثل فى إرسال ضباط سابقين فى جيش الشاه كى يؤكدوا لصدام حسين مدى هشاشة الوضع فى إيران بعد الثورة، وأن كل ما يحتاجه لتقويض هذا الوضع هو «نفخة» بسيطة يصبح بعدها بطلا لقادسية جديدة، وقيل كذلك: إن أساتذة أمريكيين من أصول عراقية قد شاركوا فى الاتجاه نفسه.

يستطيع المرء بطبيعة الحال أن يسوق أمثلة أخرى تفضى إلى الدلالة نفسها وإن اختلفت التفاصيل، كما فى توظيف بريطانيا الثورة العربية إبان الحرب العالمية الأولى فى اتجاه تفكيك الدولة العثمانية، ووقوف الولايات المتحدة إلى جانب الحفاظ على الوحدة اليمنية إبان أزمة الانفصال فى 1994لأسباب قيل إن من بينها أنها تريد بناء توازن قوى جديد فى المنطقة يكون ليمن قوية متعاونة دور مهم فيه، أو أنها ليست صاحبة مصلحة فى عودة نظام جنوب اليمن ذى التوجهات الماركسية، أو فى أن يسود عدم الاستقرار منطقة لها فيها مصالح نفطية...وغير ذلك من الأسباب. غير أن المعنى يبقى واضحا، وهو أن «الخارج» يبنى مواقفه من قضايانا على أساس من «المصلحة» وليست «الأيديولوجية»، فشتان بين العداء الأمريكى الصارخ للوحدة المصريةــ السورية «1958ــ 1961» التى كانت تنبئ بإمكان تحول جذرى فى المنطقة وتوازناتها والمهادنة ــ إن لم تكن الحماية غير المباشرة ــ للوحدة اليمنية للأسباب السابق ذكرها أو لغيرها، مع كل الاحترام لهذه الوحدة باعتبارها تجسيدا لنضال شعبى حقيقى.

غير أن تحليل السلوك الأمريكى تجاه إعادة بعث العروبة فى الظروف الراهنة يجب ألا يقتصر على مجرد محاولة فهمه، وإنما يتعين علينا أن نثير الأسئلة الواجبة، والتى يمكن أن تطرح مخاطر حقيقية بالنسبة للمستقبل. قد يفرح بعضنا بأن العروبة فى الطريق إلى بعث جديد طالما أن الممانعة الخارجية لها قد زالت ولو إلى حين، لكن هذه العروبة على الطريقة الأمريكية تحمل فى طياتها مخاطر هائلة أهمها: أن تُوَظَّف العروبة فى صدام مروع جديد بين العرب وإيران سوف تكون نتيجته بالتأكيد على حساب طرفيه ولصالح الولايات المتحدة والقوى الغربية المهمة، وقد نذكر أن هذا هو بالتحديد ما آلت إليه الحرب العراقية ــ الإيرانية، فقد أسهمت الولايات المتحدة فى وقوع الصدام بين أقوى قوتين فى الخليج، وعملت على إدامة هذا الصدام أطول مدة ممكنة، كما يشى سلوكها إبان الحرب بذلك، فتم ضرب كل قوة بالأخرى دون أدنى تكلفة من قبل الولايات المتحدة التى بدأت تعد نفسها كى تكون البطل الرئيسى على مسرح الأحداث فى الخليج، وهو ما حدث تحديدا فى أعقاب احتلال القوات العراقية للكويت فى 1990، وتلك قصة أخرى.

من ناحية أخرى، فإن السيناريو الأمريكى المطروح لإعادة بعث العروبة فى المنطقة ــ وإن كانت سوريا تبدو مستفيدة منه إلى حد بعيد ــ ينطوى على إشكاليات حقيقية بالنسبة للسياسة السورية، فمن المعروف أن لسوريا علاقاتها الوطيدة بإيران، وصانعو القرار فى سوريا على درجة من الحنكة لابد أنهم يدركون معها أن التحالفات العربية متقلبة، وأن السلوك الأمريكى ذو طبيعة مصلحية، ومن ثم فإنه من المستحيل بالنسبة لهم ـ فى تقديرى ـ أن يفرطوا فى العلاقة مع إيران أو يعرضوها لهزات حقيقية، خاصة أن ذلك يمكن أن ينعكس بالسلب ـ ولو جزئيا ـ على الوضع السورى فى لبنان، ولذلك فسوف تكون السياسة السورية مطالبة فى ظل هذا السيناريو بالسير فوق حبل مشدود ممسكة بعصا التوازن كى تتجنب السقوط فى هاوية خسارة الحلفاء.

يفرح المرء إذن لأن قبضة الخارج الثقيلة يمكن أن ترتخى على عنق العروبة التى تلقت من الضربات منذ 1967ما تنوء الجبال بحمله، لكن الحذر كل الحذر واجب كى لا تتحول العروبة من حلم بمستقبل عربى أفضل إلى أداة لتقويض هذا الحلم.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية