امش.. امش.. امش - جميل مطر - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 7:27 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

امش.. امش.. امش

نشر فى : الثلاثاء 18 أكتوبر 2016 - 9:05 م | آخر تحديث : الثلاثاء 18 أكتوبر 2016 - 9:05 م

عليك بالمشى. قالها بالود الممكن الطبيب المصرى بعد فحوصات وتجارب وتحاليل وعمليات وشهور غير قليلة من التخمينات والمشاورات عبر الأثير مع أقران فى الغرب. عليك بالمشى، أسمعها فى نهاية كل زيارة لعيادته ويده فى يدى يودعنى، يعود عند الباب يكررها فهناك يشعر أن يدى التى فى يده تريد التفلت هربا من نصائح أو توجيهات لن يؤخذ بها.
***
عليك بالمشى.. قالتها بكل حزم وعيناها تبحثان عن عيناى لتتأكد من استلامى الأمر. قالت لو أنك مارست المشى المنتظم وقاومت الجلوس الطويل خلف المكتب لما احتجت لتأتى إلينا أو إلى غيرنا. لا يهمنى أى أقراص دواء سوف تتناولها قبل الإفطار وبعده وخلال النهار حتى يحين موعد أقراص ما قبل وما بعد الغذاء أو التى يتعين عليك بلعها قبل النوم. تناول من الأدوية ما شاء وشاء زملائى أن تتناول ولكن احرص على أن تمشى نصف ساعة كل يوم بخطوة سريعة. ودعتنى بيد قوية وفى اليد الأخرى صفحات من تعليمات مطبوعة عن قواعد الجلوس السليم. عند الباب قالت يكفينى هذا الآن وإن كنت أطمع فى زيارة أخرى بعد سنة التزمت خلالها المشى.
***
عشت معظم حياتى متمردا. رفضت دائما الجلوس على كرسى بزوايا مستقيمة وظهر عال ربما لأننى سمعت من عجائز الصينيين أنهم كانوا يفرضون على أطفالهم ومراهقيهم الجلوس أمامهم ساعات طويلة على كراسٍ خشبية بزوايا مستقيمة. عرفوا أنها تضمن استقامة الظهر، ولكنهم عرفوا أيضا أنها تفرض احترام الصغار للكبار، بل واحترامهم لبعضهم البعض. أما أنا فقد عرفت بعد فترة من إقامتى فى الصين أن الجلوس على هذا الكرسى يعالج روح التمرد التى يولد بها الفرد الصينى.

ربطتنى رابطة عائلية بأستاذ كان له قدر عظيم فى الوسط الجامعى وفى نفسى. كثيرون من أبناء جيلى مدينون له بما يعرفون عن جغرافية العالم وثرواته وثقافاته، مدينون له بتذوقهم الراقى للموسيقى بشكل عام والموسيقى الغربية الكلاسيكية بشكل خاص. كثيرون تدربوا تحت قيادته على كفاءة إقامة علاقات اجتماعية صحية مع زملائهم وأقرانهم ورؤسائهم ومرؤوسيهم من الجنسين، وكان له دور كبير فى تشجيع الاختلاط بين الجنسين حتى اشتهرت بفضله كافتيريا كلية آداب القاهرة منذ كان عميدا لها كملتقى حر لشباب الجامعة. استفدت كثيرا من وجوده فى حياتى الأكاديمية والعائلية ولا شك أنه نجح فى صياغة جانب أو آخر من جوانب شخصيتى. شىء واحد فشل فيه أو قل فشلت فى ممارسته بالإتقان المطلوب، وهو المشى.

كنا نخرج العشرات من الطلبة والطالبات يوم جمعة فى الخامسة صباحا لنلتقى فى ميدان الاسماعيلية، التحرير الآن وأبدا، إن شاء الله، لنبدأ رحلة مشى تنتهى فى حلوان. هناك فى الحديقة اليابانية نتناول ساندوتشات حملناها معنا ثم نبدأ رحلة العودة بالقطار لتنتهى الرحلة فى محطة باب اللوق. الرحلة الأخرى، وكانت تنتظم أيضا يوم جمعة لتنطلق فى الخامسة صباحا من الكيت كات سالكة الطريق الملاصق للنهر لتنتهى فى القناطر الخيرية حيث نقضى اليوم فى اللهو واللعب وركوب الحمير ونعود فى الرابعة مع آخر «باخرة» تنقل المتنزهين من أطفال المدارس.

أقمت فى بيته، أو أقام هو وشقيقتى وابنتاه فى بيتنا، على شاطئ الرمل فى الاسكندرية أكثر من صيف. كان يوقظنى فى الرابعة كل صباح لنبدأ رحلة المشى من سيدى بشر إلى حيث يبدأ الكورنيش انثناءاته فى اتجاه الأنفوشى. هناك نعود أدراجنا حتى نصل إلى حيث كانت تقوم القهوة التجارية العظيمة الاتساع فنتناول الافطار من فول وطعمية مع الشاى ثم يشرب قهوته ويقرأ الأهرام قبل أن نبدأ التمشية، وهى ليست كالمشى حسب رأيه ورأى مختلف الأطباء الذين أتعامل معهم الآن. نتمشى لنستقل الترام الأزرق أبو دورين فى رحلته الطويلة حتى محطة سيدى بشر. أظن أن موقفى الراهن من المشى ويعرفه الأطباء والاصدقاء على حد سواء يعكس حالة تمرد لم يفلح الاستاذ والمعلم فى مهمة ترويضها. فاته أننى نشأت على قلة الحركة وربما بعض الميل للكسل وغير منغمس أو محب للرياضة بكل أنواعها. حاول وفشل.

***
أتمسك بموقفى عن المشى، وأظن أننى لن أحيد عنه، رغم كل المعلومات التى تراكمت فى ذهنى عن مزاياه. كتب أحد الفلاسفة كتابا عن المشى وجعل عنوانه «فلسفة للمشى». يقول فيه مثلا، إن الطبيعة التى تراها من حولك وأنت تمارس رياضة المشى هى ليست الطبيعة نفسها التى تراها وأنت جالس أو مستلقى. بل والوقت هو ليس الوقت نفسه، بمعنى أنك لا تقيس الوقت خلال المشى بمقاييس الوقت وأنت مسترخى. أما الجسم خلال المشى فهو بالتأكيد غير الجسم الذى كان فى وضع السكون. فكرت كثيرا فى هذه المقولات الفلسفية وأظن أننى فهمت ما يتعلق بالتغيرات فى الجسم ولكن لم أفهم تماما أو يجب أن أفهم تغيرات الطبيعة والوقت.

قيل أيضا، وأتفق معه، إن المشى يحرر الأفكار. وللتدليل أو للإقناع، هناك بعض الموهوبين الذين استخدموا رياضة المشى مصدرا للإلهام. هناك أيضا عباقرة استخدموا المشى الطويل لوضع نظريات فى العلم والسياسة وربما فى العقيدة. من هؤلاء نيتشه وروسو وغيرهما من الذين نجحوا فى إخضاع المشى الطويل لإرادتهم أو توظيفه كحافز وطاقة، خاصة بعد أن اكتشف بعضهم أن المشى يروض الكبر والغرور ويثير فى الانسان الحاجة إلى ممارسة التواضع. أكاد أرى أمامى رهبان البوذية وهم يمشون عشرات الأميال وفى قدمى كل منهم صندل جلدى وعلى جسده رداء أصفر لا يتغير وفى يده بوتقة من الفخار ليضع فيها المحسنون كسرة خبز أو ما هو أفضل. يمشون ولا يتوقفون إلا للنوم والأكل.

***
أصدق أو أكاد أصدق فلسفة المشى الطويل، جربتها وأنا صغير وقرأت عن معجزاتها وأنا أنضج وأعلم. أظن أنه ما كان يمكن المهاتما غاندى أن يحقق ما حققه فى نضاله ضد الاستعمار واستغلال الفقراء لو لم يشن حملاته للمشى الطويل مارا بمدن الهند وقراها. بل أنا واثق من أن ماو تسى تونج وهو ابن المرحلة ذاتها ما كان لينتصر فيصل بحزبه وملايين الفلاحين إلى قواعد الحكم بدون مسيرته الطويلة قاطعا الصين من غربها إلى شرقها. أعرف أيضا أن ما من نبى حمل رسالة سماوية ولم يقطع الفيافى على قدميه مبشرا ونذيرا. أبالغ كعادتى وأحلم بأن المظاهرات التى حملت شعارات ثورة كان يمكن أن تحقق التغيير الحقيقى والضرورى الذى كان حلم الملايين على امتداد العقود وما يزال، لو أنها قطعت مصر من شمالها إلى جنوبها وبالعكس مرات ومرات، تمر بالعواصم المحلية والبنادر والمراكز والمدن الناشئة والقرى، وتعود منصورة ومسالمة ومليونية إلى عاصمة البلاد وقد تزودت بمزيد من أحلام الناس العاديين ومعاناتهم وطاقتهم.

***
نصيحة منى، استجيبوا لنداء المشى ابتداء من التمشية على شاطئ النيل والتسكع أمام نوافذ المحلات التجارية إلى المشى سريع الخطوات فى النوادى الرياضية والصحية إلى المشى الطويل.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي