الدفعة الأولى من نتائج حرب غزة الكبرى - أيمن زين الدين - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 6:46 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الدفعة الأولى من نتائج حرب غزة الكبرى

نشر فى : السبت 18 نوفمبر 2023 - 6:50 م | آخر تحديث : السبت 18 نوفمبر 2023 - 6:50 م
رغم أن الوقت لم يحن لبلورة صورة متكاملة لنتائج حرب غزة الكبرى، فى ظل سيولة العمليات العسكرية، وتعدد الأطراف، والاحتمالات المختلفة لتصرف كل منهم، إلا أننا يمكننا الخروج من الآن بثلاث نتائج رئيسية أصبحت متيقنا منها، سيكون لها تأثير كبير على مستقبل الصراع والمنطقة بشكل عام هى: أن القضية الفلسطينية موجودة ولن تخمد أو تموت؛ وأن إسرائيل المتمسكة بالاحتلال ستظل مصدر تهديد بالغ لأمن ومصالح كل دول المنطقة؛ وأننا بصدد مواجهة كبرى على الرأى العام العالمى، سيكون لها تأثير كبير على مستقبل القضية الفلسطينية.
• • •
فما جرى يوم 7 أكتوبر أعاد تأكيد حضور القضية الفلسطينية اليوم كما كانت حاضرة فى أقصى أوقات إلحاحها، وأنها ستظل فى موقع مركزى من تفاعلات المنطقة، والشغل الشاغل لحكوماتها وشعوبها، والعنصر المحورى فى الأمن القومى لدولها.
رغم أن هذه المقولة تبدو بديهية اليوم بينما يتابع بلهفة مئات الملايين من المصريين والعرب ما يجرى فى غزة، ولا يشغل القيادات العربية قضية مثلها، فمن المهم أن نتذكر أنه بدا للبعض للحظة أن القضية بدأت رحلة الأفول فى ظل إحكام القبضة الإسرائيلية على الأراضى المحتلة، وضعف الحركة الوطنية الفلسطينية وتفتتها، وانصراف اهتمام العالم عنها، وانطلاق الدول العربية واحدة تلو الأخرى نحو إقامة علاقات طبيعية بل ونشطة مع إسرائيل.
الحقيقة أن ما جرى فى محيط قطاع غزة فجر 7 أكتوبر، كان ردا حازما حاسما بأن القضية لن تموت، ولن يسكت أهلها، لأن طبيعة الأشياء هى أن الشعوب لا تترك سعيها إلى الحرية مهما طال الزمن واشتد الظلم. صحيح أن مساحة الحركة المتاحة لشعب تحت الاحتلال ضيقة، لا سيما إذا كان احتلالا يملك من القوة والإمكانات التكنولوجية ما يمكنه من التنصت والتتبع والتحرك والقتل بدون حدود، ولا يعير اهتماما لأى قيود قانونية أو إنسانية أو أخلاقية فى مساعيه لإدامة الاحتلال وإخضاع أو إزاحة السكان ليحل محلهم، وقمع أى مقاومة، إلا أن هذا لم يمنع الفلسطينيين من إبداع أشكال جديدة للمقاومة، كما رأينا فى السابع من أكتوبر، وفى موجات المقاومة السابقة.
من الهام أن نذكر هنا ــ فى استطراد عارض لكنه هام ــ أن المقاومة الفلسطينية لم تكن دائما منزهة عن القيام بممارسات لا يقبلها الضمير الإنسانى. لكن هذه للأسف هى طبيعة الحروب، كما يذكرنا قادة إسرائيل فى تبرير ما يقترفونه فى غزة بصورة لا نظير لها، لتحمى احتلالها، فما بالنا بحال شعب يقاوم احتلالا، بدون القدرات العسكرية ومساحة الحركة المتاحة للمحتل، ليمكنه منازلته بندية فى ميدان القتال. والحقيقة أن التاريخ لم يعرف حركة مقاومة ضد الظلم أو الاحتلال لم تصفها السلطة وحلفاؤها بأنها إرهابية، فهكذا كان حال المقاومة الجزائرية، والمؤتمر الوطنى الأفريقى وزعيمه نيلسون مانديلا، وقيادات الجيش الجمهورى الأيرلندى، وغيرها من حركات وزعامات اعترف لها العالم بعد ذلك بقدرها ودورها النبيل، وغفروا لها هذه الممارسات فهما للطبيعة الخاصة لمقاومة الاحتلال.
وقد أثبت التاريخ أنه كلما استحكمت حلقات الاحتلال والظلم، خرج الباحثون عن الحرية بأفكار مبتكرة، وبمهارات أفضل، وفقدت قوى الاحتلال والقهر حماس وحرص البدايات، ولم يبق لديها إلا القوة الغاشمة المندفعة التى لم تنجح أبدا فى القضاء على حركات التحرر. لهذا، فعلينا أن نتوقع أن يأتينا المستقبل بانفجارات أخرى من هذا النوع، ستكون غالبا أكثر جرأة وفاعلية، حتى تسوية القضية تسوية عادلة.
ولعل التفاف شباب العالم العربى المفعم بالحماس والنخوة حول القضية، بصورة ربما تخطت جيل آبائهم فى شبابهم، ونشاطهم المبهر على وسائل الاتصال والمعلومات الحديثة شرحا للقضية ودعما لها، لمؤشر على مدى قدرة هذه القضية على تجديد شبابها عبر الأجيال.
• • •
النتيجة الثانية هى أنه طالما حملت إسرائيل وزر الاحتلال حول رقبتها، واستمرت مساعيها لإخضاع الشعب الفلسطينى أو التخلص منه، فإنها ستظل قوة اضطراب كبير، وتهديد شديد لأمن دول المنطقة واستقرارها وفرص نموها، مثل ما لمجرم سارق من خطورة على شهود جريمته.
فما يستدعيه هذا الاحتلال من قمع وعنف لا بد وأن يستنفر فى الشعب الفلسطينى طاقة عنف مضاد، وفى شعوب المنطقة مشاعر غضب عميق، لا يمكن أن تقف عند حد الأفكار أو الكلمات. كما أن حماية الاحتلال تتطلب برامج تسلح طموحة لضمان التفوق الاستراتيجى على دول الجوار، تؤدى بدورها إلى برامج تسلح مقابلة فى دول المنطقة، وهى وصفة للاضطراب وعدم الاستقرار.
كما أن هذا المشروع استدعى طوال تاريخه نشاطا دبلوماسيا ومخابراتيا مخربا، يسعى إلى الإضرار بدول المنطقة وإضعافها، وتحقيق مكاسب دولية على حسابها، وهو ما يعمق الكثير من الخلافات والأزمات الإقليمية، ومما تواجهه دول المنطقة من صعوبات فى علاقاتها الدولية ومشروعاتها التنموية.
إلا أن ما ظهر خلال حرب غزة من مواقف إسرائيلية تجاه سكان القطاع، وما سبقها من ممارسات توسعية استيطانية محمومة فى الضفة الغربية، كشف عن مدى جدية المخطط الخبيث لترحيل السكان الفلسطينيين من الأراضى الفلسطينية، أو ما يسمى بالـ Transfer، على حساب مصر والأردن، وتحقيق الدولة اليهودية من البحر المتوسط إلى نهر الأردن، ووصل ذلك إلى مستوى بالغ الخطورة يعيد المنطقة إلى نقطة ما قبل زيارة الرئيس السادات إلى القدس سنة 1977، بدلا من إكمال مشروع الدولتين وإحلال السلام.
المشكلة هى أن منطق الاحتلال يحمل فى طياته هذه النزعات، ولا يستطيع مقاومة إنتاج قيادات تتبارى فى التشدد والتطرف، ومجتمع يزداد عنفا، وسياسة خارجية عدوانية ومخادعة، وهو ما ظهر جليا خلال هذه الأزمة، ولم يكبح إسرائيل ما يربطها بدول المنطقة من علاقات ومصالح.
• • •
أما النتيجة الثالثة فهى أننا بصدد مواجهة كبرى على الرأى العام العالمى، ستكون ذات أثر حاسم على مستقبل القضية الفلسطينية، وينبغى الانخراط فيها سريعا لترجيح المصالح الفلسطينية والمصرية والعربية، مثلما لن تتوانى إسرائيل فى السعى لتوجيهها لصالحها.
فأسابيع هذه الحرب القليلة جاءت بردود أفعال عالمية لا تتفق مع السوابق والتوقعات. فمواقف الحكومات الغربية جاءت مفاجئة، ليس فى تأييدها لإسرائيل، وإنما فى المدى الذى وصل إليه دبلوماسيا وعسكريا ومعلوماتيا، بمنح إسرائيل غطاء ودعما كاملين للاعتداء العسكرى الشامل على غزة الذى لا يميز بين المقاتلين والمدنيين، وقبول حجة إسرائيل أن مقاتلى حماس يتخذون من المدنيين دروعا بشرية، ورفض أى مطالبة بوقف إطلاق النار كما جرى فى مواجهات غزة السابقة. وحتى عندما بدأت المطالبات بحماية المدنيين بعد وصول القتل والتدمير إلى مستويات غير مسبوقة، وزادت ضغوط الرأى العام الداخلى، جاءت النداءات خجولة بمحاولة تفادى المدنيين، وتطبيق هدنات قصيرة تسمح بهروب المدنيين من شمال القطاع إلى جنوبه كما رغبت إسرائيل من البداية.
لكن، فى المقابل، شهد العالم ردود أفعال غاضبة من ممارسات إسرائيلية ومؤيدة للشعب الفلسطينى، ليس فقط فى العالم العربى والإسلامى والكثير من دول العالم الثالث، وإنما أيضا ــ وهذا هو الجديد ــ من داخل نفس الدول الغربية التى تؤيد إسرائيل.
ومع أهمية استعادة تأييد دول العالم الثالث للقضية الفلسطينية، والحاجة لتعميقه وتوسيعه، تكتسب موجة تأييد الحقوق الفلسطينية فى الدول الغربية أهمية خاصة. تشمل هذه الموجة كتلا اجتماعية هامة ومؤثرة من المهاجرين العرب والمسلمين، والشباب، وأساتذة وطلاب الجامعات، واليساريين والتقدميين، والملونين وأقليات أخرى، بما فى ذلك نسبة ملموسة من اليهود من أنصار السلام أو الرافضين للصهيونية. هذه الجماعات استخدمت وسائل التواصل الاجتماعى للانتشار ونشر أفكارها خارج وسائل الإعلام التقليدية، وبلغة مباشرة وحديثة تعرض القضية كقضية تحرر وطنى، وتشرح أبعادها السياسية والتاريخية بوعى وفهم، فكان لها تأثيرات مدهشة، جعلتها محل اهتمام واسع عالميا وإحباط شديد فى إسرائيل. وبينما لعب الفلسطينيون والعرب والمسلمين دورا مهما ومؤثرا فى ذلك كما هو طبيعى، فإنهم لم يكونوا وحدهم، بل إن بعضا من أكثر الإسهامات انتشارا وتأثيرا قدمها نشطاء يهود يعارضون الممارسات الإسرائيلية لأسباب أخلاقية وإنسانية وسياسية، أو من منطلقات عقائدية، نابعة من رفضهم للصهيونية ذاتها، باعتبارها عقيدة عنصرية عدوانية تناقض القيم الإنسانية بل ومبادئ الدين اليهودى نفسه.
هذا التحول النوعى فى توجهات الرأى العام فى الغرب، بعد عقود من التأييد لإسرائيل الممزوج ــ فى أحسن الظروف ــ ببعض التعاطف الإنسانى مع ما يجرى للشعب الفلسطينى كبشر، يمثل فرصة حقيقية وغير مسبوقة لتغيير مواقف الحكومات الغربية الصادمة التى شهدناها. وقد تأكد اليوم أكثر من أى وقت مضى، التأثير الكبير لموقف المجتمع الدولى عموما، ومواقف الغرب خصوصا، فى هذا الصراع، ويكفى فقط تصور الحال لو كانت الدول الغربية أقل دعما لإسرائيل، وأكثر تشددا إزاء سياساتها فى الضفة الغربية، وأحرص على دفع التسوية السلمية، وتحميل إسرائيل ثمن رفضها والإصرار على الاستيلاء على كل الأرض الفلسطينية.
• • •
ستترك حرب غزة الكبرى قائمة واجبات ضخمة على عاتق الدول العربية وفى مقدمتها مصر، سواء لمساعدة أبناء القطاع على استعادة الحياة بعد ما نزل عليهم من دمار وموت، أو لمواجهة إسرائيل بما تستحق من صرامة للقضاء نهائيا على مخططاتها الخبيثة وتهديدها لأمنهم القومى، أو لاستثمار تحولات الرأى العام العالمى فى تغيير مواقف الدول الغربية، وصولا إلى تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، خاصة وأن ما كشفت عنه الأزمة من مخاطر تمس الجميع، لا تترك مجالا للتأجيل أو التقاعس.
أيمن زين الدين قانوني وسفير سابق
التعليقات