اليوم السابق لتوقف القتال فى غزة - أيمن زين الدين - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 10:04 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اليوم السابق لتوقف القتال فى غزة

نشر فى : الأربعاء 13 ديسمبر 2023 - 8:00 م | آخر تحديث : الأربعاء 13 ديسمبر 2023 - 8:00 م
بينما ينشغل الناس بالكارثة الإنسانية المروعة الناتجة عن العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة وسكانه، بدأ الحديث عما سيجرى فى اليوم التالى لتوقف القتال، وما يتطلبه التعامل مع الواقع الجديد من سياسات. تركز هذا الحديث على قضيتين أساسيتين هما الصيغة التى ستحكم إدارة قطاع غزة مستقبلا، وكيفية العودة السريعة إلى عملية السلام.
لا توجد دولة فى العالم أكثر اهتماما وتأثرا بما يجرى فى غزة من مصر، فى ضوء أهميتها القصوى لأمنها القومى ومصالحها العليا، وارتباطها التاريخى الوثيق بقطاع غزة، خاصة مع اتضاح رغبة إسرائيل الجامحة فى توظيف الحرب فى تفريغ قطاع غزة من سكانه، وتهجيرهم قسريا إلى مصر كجزء من مخطط ابتلاع الأراضى المحتلة وتصفية القضية الفلسطينية كقضية شعب ووطن، وتحويلها إلى قضية مجموعة من البشر بحاجة إلى أماكن لاستيعابهم. لذا فهناك ضرورة ملحة لأن تأخذ مصر زمام المبادرة بالتحرك فى هذا الشأن.
• • •
والحقيقة أن ترك العمل إلى اليوم التالى لتوقف القتال سيكون متأخرا للغاية، لأن الأطراف الأخرى، ولا سيما إسرائيل والولايات المتحدة، تعمل من الآن على تشكيل جدول أعمال المرحلة اللاحقة والمبادئ التى ستحكمها، على نحو يناقض المصالح الفلسطينية والمصرية، وهو ما يستدعى المسارعة من الآن بالعمل على صياغة رؤية خاصة بنا تساعد فى توجيه الأحداث الجارية الآن فى اتجاه أقرب لمصالحنا وأقل انحيازا لإسرائيل، يبدأ بوقف سريع لإطلاق النار، ويسمح بتناول أكثر توازنا لمرحلة ما بعد توقف القتال فيما يخص مستقبل قطاع غزة والقضية الفلسطينية عموما.
قبل التطرق لتصورات محددة حول ما يقتضيه ذلك من تحركات مصرية، أجد من المفيد الإشارة إلى ثلاثة محددات ستكون حاكمة للموقف المصرى. أولها هو أن ما يحدث منذ يوم 7 أكتوبر الماضى هو بمنزلة الإعلان الرسمى للوصول إلى نهاية الطريق المسدود الذى سارت عليه عملية السلام فى العقود الأخيرة، وإزالة أى وهم بأنه كان يمكن أن يؤدى إلى تسوية عادلة للقضية الفلسطينية.
ثانى هذه المحددات هو أن ما شهدته العقود الأخيرة من تحولات فى المعسكر الفلسطينى، وداخل إسرائيل، وعلى المستوى الدولى، ابتعدت الأمور كثيرا عن الواقع الذى أتاح بدء عملية السلام فى مطلع تسعينيات القرن الماضى، وأصبح الأمر يحتاج إلى وقت وجهد كبيرين لإنضاج الظروف مجددا للعودة إلى عمل سياسى لديه فرصة نجاح، وبالتالى فإن الدعوة إلى العودة السريعة إلى «عملية السلام» يعنى التسليم بالعودة إلى ما لا يمكن وصفه سوى بأنه «تمثيلية» دبلوماسية غرضها استيفاء الشكل وتهدئة المشاعر، وليس الوصول إلى تسوية، مع إتاحة الفرصة لإسرائيل لاستكمال مخططاتها.
ثالث هذه المحددات هو أنه لم يعد يجوز انتظار مبادرات القوى الخارجية، وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن كشفت الأحداث الأخيرة أنها لو تركت لهواها دون ضغوط، ودون طرح رؤى مغايرة، فإنها تميل بصورة حاسمة لكن ماكرة إلى وجهة النظر الإسرائيلية، وبالتالى تكون تحركاتها مناقضة لمصالح مصر وأمنها القومى، وإنما ينبغى أن تكون مصر هى المبادرة بالتحرك وتقديم رؤيتها بحكم موقعها ومكانتها ومصالحها كما أسلفنا.
• • •
لعل أول محور لهذا التحرك المصرى هو بناء تحالف دولى لدعم الحقوق الفلسطينية، والذى يمكن أن يضم نسبة كبيرة من دول الجنوب العالمى، العربية والأفريقية والآسيوية واللاتينية، وعدد من الدول الأوروبية التى اختارت الوقوف إلى جانب هذه القضية العادلة، مع العمل على ضم المزيد. وسيكون على هذا التحالف العمل على صياغة المبادئ التى تحكم التسوية النهائية، والضغط على باقى المجتمع الدولى لقبولها، وتضمينها فى قرارات المنظمات الدولية، واتخاذ خطوات نحو تحميل إسرائيل مسئولية أفعالها سياسيا وقانونيا، ومحاصرتها دبلوماسيا، ووضعها فى موقف الدفاع فى موضوعات التسلح وانتهاكات حقوق الإنسان.
المحور الثانى هو إعادة بناء الوضع الفلسطينى الداخلى. فمثلما احتضنت مصر إعلان منظمة التحرير الفلسطينية فى مرحلة المواجهة العربية الإسرائيلية فى الستينيات، ثم تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية فى مرحلة ما بعد اتفاقيات أوسلو فى التسعينيات، فإن الواقع الجديد، المتمثل فى الانهيار شبه التام للنظام فى قطاع غزة، وانتهاء مشروع أوسلو نهائيا، والحاجة إلى مسار جديد لحل القضية، ووجود قوى سياسية وشعبية فلسطينية مهمة خارج إطار المنظمة والسلطة، يتطلب أن تحتضن مصر من الآن جهدا منظما وجادا لابتداع صيغة جديدة للحركة الوطنية الفلسطينية تناسب المرحلة الجديدة، وتجمع مختلف روافد الشعب الفلسطينى ومجتمعه المدنى فى الداخل والخارج، وتكسب ثقة المجتمع الفلسطينى، ولا تكون مكبلة بالتزامات أوسلو التى قوضت السلطة الفلسطينية. مثل هذا الصيغة الجديدة للحركة الوطنية الفلسطينية هى التى تستطيع تسلم المسئولية عن قطاع غزة، وتحديد متطلبات وشروط تحمل هذه المسئولية.
المحور الثالث هو الاستعداد لعملية إعادة بناء سريعة لقطاع غزة عمرانيا واقتصاديا واجتماعيا بعد ما لحق به من دمار مروع، بمساندة مالية عربية ودولية، ليعود قابلا للمعيشة فى أسرع وقت ممكن، إذ إن حالة القطاع بعد انتهاء المعارك ستكون طاردة للسكان، وهو أمر لا يحدث بالصدفة، وإنما هو أحد أهداف العملية العسكرية الإسرائيلية فى القطاع. يستدعى ذلك تبنى مصر موقفا منفتحا تجاه قطاع غزة، وتسهيل اتصاله بالعالم الخارجى للأفراد والبضائع، وعدم التجاوب مع رغبة إسرائيل فى التضييق عليه، باعتبار ذلك واجبا أخلاقيا وإنسانيا على مصر، كما أنه يساعد على إزالة أى شوائب فى علاقاتها بأبناء القطاع، ومنع تحوله إلى مصدر تهديد لأمنها.
المحور الرابع هو التعامل مع الواقع السياسى الداخلى فى إسرائيل، الذى انحرف بصورة فادحة نحو اليمين المتطرف الرافض لفكرة التسوية السياسية، مما جعله مصدر تهديد كبير للشعب الفلسطينى، ولمصالح مصر وأمنها القومى، ولاستقرار المنطقة عموما. وصحيح أن هناك فوائد لمد الجسور ــ من خلال القنوات الملائمة ــ مع ما تبقى من معسكر السلام، والمعارضين للتوجه اليمينى المتطرف، إلا أن ضعف هذا المعسكر يجعل الأولوية الأولى الأجدر بالعمل هى مواجهة القوى اليمينية بصلابة، للرد على ما يشيعه اليمين الإسرائيلى بأن الدول العربية لا تحترم إلا القوة، وأن تشدد إسرائيل هو الذى يدفعها إلى المرونة ويجعلها تحترم إسرائيل وتتجاوب مع رغباتها.
المحور الخامس هو دعم المد الشعبى العالمى المتعاطف مع القضية الفلسطينية، والمعارض لسياسات إسرائيل، والداعى لمقاطعتها ومعاقبتها، خاصة فى الدول الغربية، وبالأخص الحركات اليهودية، وهو ما يتطلب الاستماع لهذا، وإبراز دورها وتسهيل مهمتها، مع عدم المبالغة فى اقتراب الحكومات منها لضمان الحفاظ على مصداقيتها واستقلاليتها، والحذر من المجموعات الفاشية التى تعارض إسرائيل كرها فى اليهود وليس تأييدا للحقوق الفلسطينية العادلة. كما أنه سيكون مفيدا مراعاة أن تكون نبرة التضامن مع فلسطين فى الخطاب العربى جاذبة ومرحبة بمختلف العقائد والشعوب، مثلما كانت نبرة التضامن مع حركة مقاومة الأبرتايد فى جنوب أفريقيا، والتركيز على أنها قضية إنسانية وأخلاقية لا يقتصر التضامن معها على أبناء عقيدة أو قومية معينة، وأنها لا تعادى أبناء أى عقيدة أو قومية أخرى، وإنما تقاوم الاحتلال. كما ينبغى تجنب ربط الممارسات الإسرائيلية باليهود، لا سيما وأن أغلب معتنقى الفكر الصهيونى المتعصب فى العالم ليسوا يهودا، بينما يتبنى قطاع مهم من يهود العالم مواقف بالغة الاحترام فى مساندة الحقوق الفلسطينية، يصل بالبعض إلى حد معارضة الفكر والمشروع الصهيونى ذاته.
المحور السادس والأخير فى هذا السياق، وإن كان لا يقل أهمية عن المحاور السابقة، هو أن تعمل مصر، بالتعاون مع الأردن، الدولة التى تتفق رؤيتها ومصالحها مع رؤية ومصالح مصر أكثر من أى دولة أخرى، على صياغة موقف عربى موحد، ومشروع عمل عربى مشترك إزاء المحاور السابقة، لتعزيز قوة وفاعلية التحرك المصرى. إلا أن هذا ينبغى أن يأتى بعد أن تبلور مصر رؤيتها على النحو السابق ذكره وليس قبله، وبعد أن تنشئ مصر توافقا مبدئيا حولها مع مجموعة نواة من الدول العربية، لكى تكون الرؤية المصرية أساس مناقشات بناء الرؤية المشتركة، ولتفادى تبعثر النقاش والأفكار على نحو لا يؤدى إلى نتيجة ذات قيمة.
• • •
هذا العمل يحتاج جهدا كبيرا ومعقدا لتطوير عناصره وصياغتها بشكل تفصيلى، ثم وضعها موضع التنفيذ، والمتابعة، وهو ما يتطلب تشكيل فرق عمل تضم خبرات متميزة ومتنوعة، وعملا دبلوماسيا وإعلاميا كبيرا، وتواصلا واسعا مع فاعلين مختلفين على مستوى العالم من مجتمع مدنى، ومؤسسات دينية، وخبراء وأكاديميين وباحثين وغير ذلك. لكنه يتطلب قبل كل ذلك، إيمانا بأننا بصدد مهمة وطنية بالغة الأهمية والحساسية.
والحديث هنا لا يتعلق بالسعى للحفاظ على دور مصر كما يحلو للبعض القول، لأن الدول لا تسعى إلى دورها وتطلبه، وإنما يأتيها نتيجة ما تتخذه من مواقف وما تقوم به من تحركات بناء على مصالحها ورؤيتها ومسئولياتها وقدراتها. ومن شأن اضطلاع مصر بدورها استنادا إلى مصالحها ورؤيتها ومسئولياتها وقدراتها، التأثير فى حسابات القوى الدولية وتعديل مواقفها لتكون أكثر اتفاقا مع متطلبات التسوية العادلة للقضية الفلسطينية، وأكثر حرصا على مصالح مصر العليا الاستراتيجية والاقتصادية والدبلوماسية.
ملحوظة: يعود الفضل فى فكرة هذا المقال، وفى اقتراح التحالف الدولى لدعم القضية الفلسطينية، إلى أستاذى السفير عبدالسميع زين الدين
قانونى ودبلوماسى سابق
الاقتباس
الحديث هنا لا يتعلق بالسعى للحفاظ على دور مصر كما يحلو للبعض القول، لأن الدول لا تسعى إلى دورها وتطلبه، وإنما يأتيها نتيجة ما تتخذه من مواقف وما تقوم به من تحركات بناء على مصالحها ورؤيتها ومسئولياتها وقدراتها.
أيمن زين الدين قانوني وسفير سابق
التعليقات