عودة للضمير - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 2:01 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عودة للضمير

نشر فى : الخميس 19 يناير 2012 - 9:30 ص | آخر تحديث : الخميس 19 يناير 2012 - 9:30 ص

فى شروق الخميس 3 مارس 2011 الماضى كتبت مقالا عنوانه «زيارة للضمير» قلت فيه:

 

«نهار الاثنين الماضى تلقيت ضمن مجموعة صغيرة دعوة للقاء مع الدكتور محمد البرادعى فى بيته، وعلى غير عادتى النافرة مما أتصور أنها لقاءات «مَكْلَمة»، وجدتنى أرحب بالدعوة، خاصة وقد عرفت الأسماء الطيبة للعدد القليل من المدعوين والمدعوات لهذا اللقاء، والذى عرفت أنه مجرد مناسبة لتبادل الأفكار، بلا تلميع صحفى ولا وميض تليفزيونى.

 

لم أُعِدُّ فى رأسى ما يمكن أن أطرحه فى هذا اللقاء، ولا خطر لى أن لدىَّ شيئا أقوله، فالهدف الذى أضاء داخلى عندما تلقيت الدعوة، هو تأمل هذا الرجل، واختبار إحساسى بظاهرته التى وصفتها منذ ظهوره فى حياتنا السياسية بأنها « شجاعة الوداعة»، فالرجل الهادئ، الذى يتلعثم قليلا ولا يكاد صوته يرتفع، إنما يشع بجسارة لا يتمتع بها مشاهير الرفض الحنجورى، وهو برغم هدوئه وصوته الخفيض، لم يعبأ منذ اللحظة الأولى بالمحاذير التى يناور حولها كثيرون من نجوم المعارضة، بل طرح بطمأنينة قلب سليم ما كان كفيلا بتعريضه للاغتيال أو السجن أو التضييق أو تلفيق الفضائح الكاذبة، وقد بدأوا معه من آخر هذه القائمة لعله ينكسر أو يرتدع، لكنه واصل بطمأنينته وهدوئه السير فى طريق رفضه لنظام حسنى مبارك، بادئا من رأس هرم الاستبداد والفساد، وقدَّم رؤية مُركَّزة لمصر ديمقراطية وعادلة ومستنيرة ومتحضرة. صحيح أنه لم يكن مُناضلا ميدانيا، وصحيح أنه لم يرابط طويلا على الأرض التى يطمح لتغيير صورتها إلى الأجمل، لكنه لم يتراجع لحظة فى طرحه. قدَّم رؤى عملية للتغيير بدت رومانسية وغير ذات جدوى، كجمع مليون توقيع على المبادئ السبعة للجمعية الوطنية للتغيير، وبشَّر بأن نزول مليون مصرى إلى الشارع كفيل بإسقاط النظام، وبدا ذلك للكثيرين حينها، وأنا منهم، محض نضال نخبوى بعبق أوروبى، لكن الواقع الذى تجلَّى فى انتفاضة الشباب التى تحولت إلى ثورة شعبية جامعة، جاء تصديقا لصفاء رؤية الرجل الهادئ المطمئن، والتى التقطَتْ صدقها خيرة القلوب الكبيرة كما القلوب الغضة السليمة لأنقى رجال وشباب مصر على اختلاف أطيافهم، فرسَّمت البرادعى أملا، وغنت أصواتُ فَتية باسمه عنوانا للتغيير.

 

فى الحديقة الصغيرة اللطيفة لبيت الرجل صنعت مقاعدنا التى لم تزد على عشرة دائرة ود، كان الرجل نقطة على قوسها لا نجما فوقها، ولاحظت أن سيدة البيت تسلك سلوكا يشبهنا، يشبه ما عهدنا أمهاتنا وأخواتنا فى البيوت المصرية كريمة الأصل يفعلنه عند استقبال الضيوف، فبعد أن رحبت بقدومنا بجوار زوجها وقدمت واجب الضيافة، انسحبت مُقدِّرة بتواضع صادق أن مكانها هو موقع الرعاية لا الوصاية تجاه زوجها الذى تحترمه وتحترم ضيوفه، وقد فعلت ذلك بهدوء مطمئن كما زوجها، وشجاعة ووداعة تماثل شجاعته، برغم أن هذا البيت، بيتها، كان عرضة لمخاطر مخيفة قبل سقوط الطاغوت، ولم تزل ظلال المخاطر ماثلة ما دام للطاغوت فلول وذيول.

 

كنت أتأمل من حولى البشر والشجر وأنا أصغى للمتحدثين دون تأهب للمشاركة، لكننى بدأت استنفر عندما سمعت إلحاحا من بعض الحاضرين والحاضرات على وجوب أن يعلن الرجل عن نيته الترشُّح للرئاسة، أسوة بمن تسابقوا فى إعلان ذلك أو ناوروا فى الإيحاء به، بحجة أن ذلك يزكى مشاعر الشباب ويبدأ فى شق طريق العمل فى هذا الاتجاه، عندئذ شعرت بالفزع برغم وثوقى فى صدق وبراءة هذه الدعوة، ووجدتنى أتكلم.

 

رجوت الدكتور البرادعى ألا يستجيب لهذه الدعوة الكريمة الآن على أى نحو، وبررت ذلك بأن إعلانه عن نيته الترشح للرئاسة التى أوضح من قبل أنها ليست هدفه، وكان صادقا فى ذلك ولايزال، ستجعله يصطف فى طابور المتسابقين على المغانم، وهو أبعد ما يكون عن معظمهم، لأن له مكانا آخر أثبت جدارته فى شغله، كونه نقيضا واضحا للنظام الذى جاهر بضرورة تغييره. فالنظام الساقط لو أردنا له توصيفا جامعا لوجدنا أنه كان نظام غياب الضمير وانعدام الأخلاق، بدليل كل ممارساته الفاسدة من نهب وسلب لمقدرات الأمة وبلطجة قامعة لأبنائها وتزوير لإرادتها وتعطيل للقانون وتشويه للتشريع وتسييد للسفلة، هذه كلها كانت ممارسات إجرامية لتشكيل عِصابى باتساع الوطن، أفراده من السيكوباتيين الذين تجمعهم خصال السيكوباتية الواضحة من كذب ومراوغة وعدوانية وسرقة وعمى بصيرة فادح وفاضح. وفى مواجهة نظام شديد البشاعة على هذا النحو، يكون التغيير واضح المعالم، ويتلخص فى إقامة نظام جديد قوامه رفعة التسامى وسمو الضمير، وصلابة السويَّة فى القائمين عليه.

 

قلت إننى لطالما تمنيت أن يكون فى سُدة الحكم رجال كالدكتور البرادعى أو الدكتور محمد غنيم أو غيرهم من المصريين الأفاضل ذوى المصداقية الواضحة والصلابة الأخلاقية والإيمان برفعة القانون وبهاء العدالة والعدل. أناس هم طلاب حق لا سُلطة، إلا لو دعاهم إليها داعى أداء الواجب، كونها تكليفا لا تشريفا، ومغرما يستحق التضحية لا مغنما يدعو إلى المزاحمة. باختصار نحن فى هذه المرحلة المتوترة والمضطربة أشد ما نكون حاجة للرجال الضمائر، والدكتور البرادعى نموذج لهم، وينبغى الآن أن يظل كذلك، لهذا رجوته ألا يستجيب لدعوة الداعين إلى إعلانه نيته الترشح للرئاسة».

 

لقد مرت على ذلك المقال ثمانية أشهر، جرت فى النهر خلالها مياه كثيرة حتى لم يعد النهر هو نفسه، وكانت مياها فى أحيان كثيرة ملوثة بالكذب السياسى والروحى ودم الشباب الذين اغتيلوا غيلة أو أُصيبوا بحقد أو سُفحت مياه عيونهم عن قصد أو تم سحلهم بفظاظة مشينة، ثم جرت انتخابات خرج لها قرابة ثلاثين مليون إنسان فى ظاهرة تاريخية ملفتة وتستحق كل التقدير والاحترام، وإن كانت هذه الانتخابات نفسها قد تحولت بهمجية البعض إلى مباراة طائفية فى كثير من جوانبها، وبمواكبة ذلك جرت حملة تشويه متعمد لكثيرين من شباب الثورة وبعض رموزها ومنهم الدكتور البرادعى الذى فُتحت عليه أبواق هابطة بعضها لدعاة أفظاظ لم يكتفوا بالتشكيك فى عقيدته بل تمادوا فى الإساءة إلى أسرته بكذب اضطروا للتراجع عنه عندما انكشف زيف أكاذيبهم. ولم يخل الأمر من محاولة قتل الرجل ماديا إضافة لقتله معنويا فى واقعة الاعتداء عليه من قِبل سفلة مأجورين فى لجنة الاستفتاء على التعديلات الدستورية المشئومة فى المقطم.

 

لن أزيد على ما قلته منذ ما يقارب العام إلا أننى سعيد بالقرار الشجاع والذكى الذى اتخذه الدكتور البرادعى، فلابد أن يكون هناك ضمير ينشد المثال، ولا يقبل على نفسه أنصاف وأشباه وأشباح الحلول، أما القول بأنه يتخلى عن النضال على الأرض، فهذا كلام مردود عليه، لأن خطوته تلك تدعيم لتسامى النضال على الأرض، بل إن خطوته تلك هى خطوة ملهمة، ودليل على أن هذا الرجل الضمير صاحب رؤية ثاقبة وبصيرة سياسية نادرة، ونحن فى أشد الحاجة لمثلها فى موجة ثانية لثورة ممتدة تزيل ماران على الأذهان من تشوش، لأجل مصر الناهضة، دولة المواطنة والقانون والتعددية وتداول السلطة والكرامة والعدل الاجتماعى والوسطية والاعتدال الحميدين فى الدين والدنيا.

 

أما المفارقة فى استرجاعى لذلك المقال، فهى اكتشافى أننى ذيلته حينها بعدة «رسائل موجزة» للضمير المصرى الجمعى، كان أولها رسالة تحذر من: «التسرع الذى يدفعنا إليه مسوقو المشروع النووى بالرغم من أن الدلائل تتزايد على ضرورة إعادة النظر فى مخاطره وجدواه مقارنة بوسائل آمنة ومستديمة للحصول على الطاقة!» فما أقرب الليلة بالبارحة، ففى صحف صباح الأحد الماضى التى حملت نبأ قرار الدكتور البرادعى بالانسحاب من سباق الرئاسة وردود الأفعال عليه، وجدت الأخبار تتجدد حول المشروع النووى نفسه بعد احتلال الأهالى لأرض الضبعة التى كانوا يسكنونها ويعمرونها ويزرعونها قبل أن يتم تهجيرهم منها قسرا، وهى مسألة لا أُدلى فيها الآن بقول لعدم معرفة ملابساتها، أما الذى أُبدى فيه أشد الاستغراب، فهو تصريح «المتحدث الرسمى باسم وزارة الكهرباء والطاقة أكثم أبو العلا الذى قال إن تنفيذ مشروع المحطة النووية الأولى فى موقع الضبعة سيحول مدينة الضبعة إلى مدينة عالمية من خلال معرض نووى ومركز تدريب عالمى ومركز للمعلومات وسيصاحب ذلك بناء مستشفيات ومدارس على أعلى مستوى، وأن مواصفات المحطة النووية فى الضبعة، تشترط أقصى درجات الأمان النووى، وأنها ستُبنى من خلال مناقصة عالمية مفتوحة تتنافس فيها جميع الشركات الموردة للتكنولوجيا النووية»!.

 

الكلام القديم نفسه والأسلوب نفسه فى مسألة تتطلب عدم احتكار الرأى إطلاقا لما تنطوى عليه من حساسية وخطر، وكأن «المشروع» تم اعتماده وينتظر الاستيراد والتركيب. هذا أسلوب ينبغى أن يتوقف، فى مسألة خطيرة كالمفاعلات النووية، التى لا ينبغى أن يحتكر الرأى فيها «النوويون» وحدهم، فالجولوجيون لهم رأى، وعلماء المناخ والبيئة والصحة والاقتصاد لابد أن يكون لهم فى ذلك رأى، كما أن الناس كل الناس ينبغى أن يكون لهم فى ذلك رأى ولو من خلال البرلمان المُنتخَب القادم، وفى ضوء تنوير علمى يقارن مثل هذه المشاريع بالبدائل الآمنة فى مضمار الطاقات المتجددة التى لدينا من مواردها الكثير كطاقة الشمس والرياح، بل فى ضوء بدائل نووية مخاطرها ليست كارثية يسعى إليها العالم المتقدم الآن بينما يغرينا بغيرها، وهذا ما لم يذكره واحد من النوويين لدينا، وسأكتب عنه فيما انتويته من توجُّه ثقافى ضمن متطلبات «ثورة ثانية» نهضوية وتنموية ستكون الامتحان الأهم لكل الأطراف، وهى ثورة ممتدة لا يمكن أن تكون فى يوم واحد حتى لو كان يوم 25 يناير القادم الذى سيتشوه إذا تحول إلى مناسبة للاحتفال الكاذب أو الاعتصام أو الصدام المذمومين، لأنه ينبغى أن يكون يوما سلميا حضاريا لمراجعة وإيقاظ الذواكر والضمائر، تأهبا لمواجهة أنواء وأعباء المستقبل.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .