ما أقسى هذا النظام ! - جلال أمين - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 10:22 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما أقسى هذا النظام !

نشر فى : الجمعة 19 فبراير 2010 - 9:45 ص | آخر تحديث : الجمعة 19 فبراير 2010 - 9:45 ص

 أريد أن ألفت النظر فى هذا المقال إلى صفة من صفات النظام الحاكم فى مصر، لم تحظ بما تستحقه من اهتمام، وهى القسوة. أنا لا أقصد قسوة النظام فى معاملة الفقراء والمساكين وقليلى الحيلة، ممن لا ظهر له ولا وساطة، بل أقصد قسوته فى معاملة رجاله الأثرياء والمقربين، وواسعى الحيلة، واللصيقين جدا بالرءوس العليا للنظام.

فبين الحين والآخر نسمع عن سقوط واحد من هؤلاء الذين كانوا فى اليوم السابق مباشرة من رجال النظام المحظوظين، فإذا بالنظام يتخلى عنه فجأة، وكأنه يلقى به فجأة من النافذة، فيجد نفسه فى الشارع، وإذ تجده وسائل الإعلام وحيدا وبلا نصير، تشرع فى نشر فضائحه، وتملأ الدنيا بتفاصيل أعماله السيئة كلها منذ تولى مسئولية وزارة أو مؤسسة كبيرة، وتسهب فى بيان ما استولى عليه من أراضى الدولة وأموالها بغير حق، لنفسه وزوجته وأصدقائه ومحاسيبه، خلال حياته الطويلة بالقرب من قمة السلطة.

المدهش هنا، ليس تجرؤ الناس عليه عندما يجدون النظام قد تخلى عنه، بل كل هذه القسوة التى يبديها النظام معه. وهو الذى بذل النفس والنفيس لإرضاء القابعين على قمة السلطة، كان يظن أنه آمن تماما طالما استمر فى عمله على إرضائهم.
من مظاهر هذه القسوة، التظاهر، من جانب أعمدة النظام، بأنهم لم تكن لهم به صلة وثيقة فى أى يوم من الأيام، وكأنهم لم يحققوا أرباحا طائلة من وراء فساده الذى يتهم به، وإطلاق سلطات التحقيق عليه بينما تغض البصر عن كثيرين غيره، والسماح لوسائل الإعلام الحكومية بالخوض فى سيرته بينما هى ساكتة تماما عن أمثاله.

شىء واحد فقط يمكن أن يحمى الرجل الملقى به فجأة فى الشارع من هذه القسوة الزائدة من جانب النظام، وهو أن يبدى من الشجاعة ما يجعله يهدد من تخلى عنه بأنه سيهدم البناء كله فوق رءوس الجميع، إذا استمروا فى معاملته على هذا النحو، وأنه قبل أن يصيبه سوء سوف يجعل الفضيحة عامة، وعلى الجميع أن يواجهوا نفس التهمة. هنا فقط، بشرط أن يبدو التهديد جديا، يمكن أن يكف النظام يده عنه، ويتركه لشأنه.

مما يساعد النظام على التنصل من المسئولية عن أعمال الفساد التى يرتكبها هؤلاء، الضعف الشديد الذى تتسم به ذاكرة الناس. فما أسهل أن ينسى الناس أن هذا الوزير أو المسئول الذى يضحى به الآن، ظل وزيرا أو مسئولا فترة طويلة جدا من الزمن، وما أكثر المناسبات التى ظهر فيها مع مسئولين كبار وهم يبدون له غاية الود والرضا عنه، وأنه جلس طوال هذه المدة على نفس المائدة مع سائر الوزراء ورئيس الوزراء دون أن يلفت أحد منهم نظره إلى ما يتكلم عنه الناس، بل وأنه أعطى وساما عظيما بعد أن طلب منه، بسبب أو آخر، أن يترك وظيفته التى مارس فيها كل هذا الفساد.

ما أسهل أيضا أن ينسى الناس أن مشروعا كبيرا بددت فيه مئات الملايين من الدولارات، رغم اعتراض خبراء كبار عليه، ثم توقف العمل فيه فجأة لأسباب غير معروفة، ثم بدأت رائحة الفساد تفوح منه، وصف وقت تدشينه بأنه المقصود منه «بناء حضارة جديدة» وأنه يضارع فى أهميته لمستقبل مصر، مشروع السد العالى الذى بنى فى الستينيات.

ما أسهل أن ينسى الناس أن هذا الوزير أو المسئول الفاسد لم يتسلم منصبه الخطير، بسبب أنه اشتهر قبل ذلك بكفاءة عظيمة أو نزاهة منقطعة النظير، ولا حمله إلى منصبه تمتعه بشعبية واسعة جعلته أحق بالمنصب من غيره. لقد اختاره النظام لهذا المنصب لسبب غير مفهوم ودون أن يبذل النظام أى جهد لتبرير هذا الاختيار، مما يرجح بالطبع أنه لابد قد اختير لهذا المنصب لما كان يعول عليه من استعداد فطرى لممارسة الفساد على نحو يعم خيره على غيره من أعمدة النظام.

ما أسهل أن ينسى الناس ذلك، فلا يفكرون إلا فى أن مسئولا يمارس الفساد قد تم اكتشاف فساده فجأة.

ما الذى يدفع النظام إلى أن يعرض واحدا بعد الآخر من أعمدته لهذه المعاملة القاسية؟
قد يكون السبب مجرد سوء الحظ، كأن تنكشف فضيحة لم يكن من المتوقع أن تنكشف. وقد يكون السبب ارتكاب الرجل خطأ فادحا، فى حق أحد أعمدة النظام، ولم يقدر مدى خطورة هذا الخطأ، فاكتسب عداوته وتعرض لانتقامه.

أو قد يكون السبب أن النظام قدر أن هذا المسئول قد شرب حتى ارتوى، ومن المفيد إتاحة الفرصة لغيره، من أصحاب نفس الموهبة، ولكنه قد يكون أكثر نشاطا فى ممارسة الفساد وأكدر قدرة على الابتكار فيه. ولكن قد يكون السبب لا هذا ولا ذاك، بل وجود سياسة ثابتة لدى النظام بأنه يضحى من حين لآخر لواحد من أعمدة النظام ذرا للرماد فى الأعين، من أجل حماية الباقين. إذ لا يخفى ما لهذه السياسة من فائدة لا يستهان بها هى شغل الناس بقضية فساد واحدة عن وقائع فساد أخرى عديدة.

لكل هذه الأسباب فإنى لا أنصح أحدا بأن يقبل أن يكون وزيرا أو مسئولا كبيرا فى هذا النظام، ولو لسبب واحد فقط، وهو قسوته المفرطة.

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات