عن عملات مستقرة وغير مستقرة - محمود محي الدين - بوابة الشروق
الخميس 20 نوفمبر 2025 12:36 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

كمشجع زملكاوي.. برأيك في الأنسب للإدارة الفنية للفريق؟

عن عملات مستقرة وغير مستقرة

نشر فى : الأربعاء 19 نوفمبر 2025 - 7:15 م | آخر تحديث : الأربعاء 19 نوفمبر 2025 - 7:18 م

بدافع الرغبة فى استمرار الهيمنة على سوق العملات الصعبة، ذكَّرتنا شبكة «رويترز» الإخبارية منذ أيام ببعض مبررات الإدارة الأمريكية الحالية بمساندة إصدار ما يعرف بالعملات المستقرة. حيث أوضح ديفيد ساكس المكلف بشئون الذكاء الاصطناعى والمشفرات بالبيت الأبيض، بعد أيام من تولى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب مقاليد الحكم، أن الدعم المطلق للعملات المستقرة -المساندة بالكامل بالدولار - «من شأنه تأكيد سيطرة الدولار الأمريكى دوليا، وزيادة استخدام الدولار رقميا، ومن خلال ذلك سيوجد طلب على الدولار بما يعادل تريليونات من مشتريات أذون الخزانة والسندات الأمريكية؛ ما من شأنه تخفيض أسعار الفائدة على الأجل الطويل». وسعت الإدارة الأمريكية لإصدار التشريع المعروف الآن بقانون «جينيوس» بمعنى عبقرى، وهو مختصر الحروف الأولى لتشريع هو الأول من نوعه للأصول الرقمية، والصادر فى 17 يوليو من هذا العام بعنوان «إرشاد وتأسيس الابتكار الوطنى للعملات المستقرة الأمريكية».

 


ومن المزايا الاقتصادية للعملات المستقرة انخفاض تكلفة المعاملات عبر الحدود، وسرعتها من دون الاعتماد على نظام السويفت، أو وسطاء نقل الأموال بتكاليفهم الباهظة وما يستغرقونه من وقت. ولكن، هناك مخاطر الدولرة من خلال هذه العملات المستقرة، حيث ستواجه البنوك المركزية رافدا جديدا للتدفقات المالية الأجنبية لا يخضع لسيطرتها، ويجعل إدارتها للسياسة النقدية أكثر صعوبة. كما أن هذه الأصول المالية المشفرة يمكن تداولها خارج القنوات المراقبة من البنوك المركزية.
فما بالنا وهذه العملات سيتم التوسع فى إصدارها والطلب عليها، فكما يتنبأ ستيفن ميرين، العضو المعين مؤخرا من قِبل الرئيس ترامب فى مجلس محافظى البنك الفيدرالى، بأن العملات المستقرة ستصل إلى ما بين تريليون و3 تريليونات دولار مع حلول عام 2030؛ ارتفاعا من 300 مليار دولار فى الوقت الراهن. هى أرقام لا يمكن تجاهلها بخاصة أن أغلب الاحتفاظ بها سيكون خارج الولايات المتحدة.
وتداول هذه العملات والاحتفاظ بها سيكون يسيرا عبر تكنولوجيا «سلسلة الكتل» أو البلوك تشين بحرية مطلقة بما يتجاوز نظم الدفع الوطنية وآليات تسوية المعاملات وقوانين سعر الصرف. وإذا لم تتنبه السلطات النقدية فستجد نظامها النقدى والمالى جزئيا ثم تدريجيا خارج نطاق سيطرتها، بما لا تجدى معه النظم المتقادمة لتقييد حركة رءوس الأموال عبر الحدود معها نفعا، بخاصة للبلدان التى عانت من الدولرة، لتراجع عملاتها المحلية فى القيام بوظائفها فى الاحتفاظ بقيمة النقود بسبب معدلات التضخم المرتفعة، وانخفاض الاعتماد عليها فى حساب القيمة، وتسوية المعاملات.
فلطالما أكدت أن الخطوة الناجعة للتعامل مع العملات الصعبة بأنواعها، وكذلك أشكالها القديمة أو الجديدة، يجب أن تبدأ بألّا تكون العملة الوطنية سهلة فى بلدان إصدارها أصلا، فآفة العملات المحلية السهلة قد تفاقمت بالتوسع فى الاستدانة، واشتعال التضخم ارتفاعا وتراجع النمو بانخفاض الإنتاجية وتدهور التنافسية تشغيلا واستثمارا وتصديرا.
وأعرف فى المقابل العملة الصعبة، بغض النظر عن شكل إصدارها ورقيا كان أو رقميا أو مشفرا بأنها عملة دولية التداول، لها قبول وقوة إبراء عبر الحدود. حقا ارتفعت معدلات التضخم فى الاقتصاد الأمريكى بعد موجة التيسير النقدى، مع تخوف من وقوعه فى ركود بسبب السياسات الاقتصادية غير التقليدية والحروب التجارية، وما أصاب سوق العمل من ضحالة بعد تقييد حركة العمالة الوافدة، وضعف الارتباط بين النمو الاقتصادى والتشغيل، رغم ذلك كله فالدولار ما زال مسيطرا على معاملات الاقتصاد العالمى لأكثر من سبعة عقود. فنحو 90 فى المائة من معاملات النقد الأجنبى تتم بالدولار، وكذلك تسوية المعاملات التجارية بما يتجاوز 70 فى المائة فى آسيا و95 فى المائة فى الأمريكتين، فضلا عن أن 58 فى المائة من احتياطات البنوك المركزية ممثلة فى أصول مالية دولارية.
وفى مستقبل العملات المستقرة جدل تحسمه الإجابة عن أسئلة مهمة، لا شك أنها ستشغل اهتمام البنوك المركزية وعموم الناس:
- هل يصدق وصف العملة بالمستقرة من دون اعتبار للاستقرار فى المدى الطويل للعملة المساندة لها؟
- ألا ينبغى التمييز بين العملات المستقرة المقومة بالدولار وفقا لتوفر الضمانات المساندة؟ فمنها ما هو مضمون بالكامل، ومنها ما هو مضمون جزئيا ومنها المتداول بلا ضمان.
- ما مستقبل عملات البنوك المركزية الرقمية، وعلاقتها بالعملات المستقرة؟
- ما احتمالات نجاح البنك المركزى الأوروبى فى رقمنة اليورو، وإمكانية توسعه النقدى دوليا باعتبار اليورو العملة الثانية دوليا للاحتياطى، رغم تراجع تنافسية اقتصاده وفقا لتقرير ماريو دراجى الشهير الذى وصف فيه الاتحاد الأوروبى بأنه يواجه أزمة وجودية؟
- ما آفاق تدويل اليوان أو الرينمينبى الصينى، بخاصة بعد تطوير تكنولوجية رقمنته وتشفيره والتوسع فى المشاركات الدولية الثنائية لاستخدامه؟
- ما تأثير التوسع فى العملات المستقرة على ودائع البنوك؟
- وما الأثر على تحويلات العاملين بالخارج؟
- ما تأثير التوسع فى العملات المستقرة على احتكار ريع الإصدار النقدى من قِبل البنوك المركزية؟
- ما الآليات المتاحة للبنوك المركزية فى ظل هذه المستجدات لإدارة السياسة النقدية، والانضباط المالى، والتحكم فى التدفقات المالية الدولية؟
قد يتغير وضع الدولار مستقبلا ويزاح عن عرشه كما أزيح الجنيه الإسترلينى والغيلدر الهولندى عن عرشيهما من قبل، ولكن فى الوقت الراهن ما زالت هناك هذه الهيمنة الدولارية التى يراهن أنصار الدولار على أن وثبة تكنولوجيا العملات المستقرة ستعززها، بما يتطلب الإجابة عن هذه الأسئلة الحرجة فى مقالات مقبلة.

 

نقلا عن الشرق الأوسط

التعليقات