نشرت جريدة الشرق الأوسط مقالا للكاتبة «سوسن الأبطح» تتحدث فيه عن اللغة العربية ودور الصحافة فى بناء نهج وسطى بعيد عن العامية المبتذلة أو الفصحى المعقدة.
بينما يتناكف اللغويون منذ عقود طويلة، وهم يدورون فى حلقة مفرغة، إن كان يحق لنا استخدام كلمة «تليفزيون» أو «الرائى»، و«راديو» أو «مذياع»، ويخترعون من المفردات ما لا يصل إلى آذان العامة أو تستسيغه بديهتهم، يذهب الصحفيون إلى مكاتبهم وليس بين أيديهم غير اللغة وسيلة لكتابة مقالاتهم، وتوصيف مشاهداتهم، وتوصيل معلوماتهم للقراء الذين ينتظرونهم ولا يغفرون لهم تأخرا. وهى رحلة يومية شحذ خلالها مئات الكتّاب العرب، الذين بينهم من طار صيته، وغيرهم بقوا جنودا مجهولين، قرائحهم، ونحتوا جسد اللغة حتى أحالوها رشيقة، خفيفة، تجارى المُعاش، غير قادرة عن التخلف عن الركب.
وفى يوم اللغة العربية، يطال الكلام كل تفصيل إلا هذا الدور المحورى الذى عصم اللغة من التحنيط والمفردات من البرود والأساليب من التجمد. وبدل الاعتراف بالفضل، لا يملك اللغويون سوى رمى الصحافة بالاتهامات السهلة، بأنها تهوى بالنحو، وبإمكانك أن تقرأ عشرات المقالات عن الصحفيين الذين أفسدوا الذوق العام وارتكبوا ما لا يحمد من الأخطاء، مع أن من لا يعملون هم وحدهم من لا يخطئون.
وإذا كان من فضيلة للصحافة، فهى أنها تخطت هذا الجدال بين من يدعون إلى فصحى أفصح من الفصيحة، وعامية لا تعترف بغير ذاتها، وبنوا نهج اللغة الوسطى بصمت الرهبان المتبتلين. ولولا الجرائد لما وجد الأجانب الذين يتعلمون العربية نصا يقرأونه يوصلهم بالحياة التى نعيش، ولبدت المسافة بين فصحانا وعاميتنا كضفتى نهر لا تلتقيان.
فسواء كانت الفصحى هى لغة قريش فى الأساس أم إحدى لهجات نجد، أم ما غلب استخدامه عند العرب، كان ثمة دائما فرق بين المكتوب والمحكى، يزيد أو ينقص، دون أن يفسد من جمالية الاستخدامات شيء. وكان عبقريا محمود تيمور حين وجد الحل هو ومن جاراه فى الرأى، ولم يستمع إليهم أحد. فقد تعجب الرجل كيف نقتبس من اللغات الأجنبية كلمات نعرّبها ونترجم منها تعابير لها دلالات خاصة، برحابة صدر، بينما نقفل الباب على العامية ونمنعها من الولوج إلى ما نكتب، ونضيق بها ذرعا. وحكى دائما عن العامية وكأنها بعبع يهجم على الفصحى ليفترسها. وفى العموم لا يحب اللغويون السماع بموضوعها. وكأننا أمام خيارين، إما نتحجر فى زمن سيبويه أو نطلّقه طلاقا بائنا. والحل بسيط على ما يقول محمود تيمور، فالفصحى إذا ما شرعت نوافذها على استخداماتنا اللغوية اليومية ولو قليلا بعد هدم الجدار الموهوم بينهما، تغذت ونبضت حياة، واقتربت من مزاج الناس، وصارت أكثر شبها بهم.
ألا نسأل أنفسنا لماذا نستخدم عبارة «الدخول الأدبى» للحديث عن إصدارات الكتب فى سبتمبر ترجمة عن الفرنسية، أو لفظة «أجندة» و«بسكليت» و«بوفيه» و«بلاج» و«تاكسي»، و«برلمان»، وينظر إلى نصنا على أنه ركيك لو استخدمنا فيه عبارة من مثل «هذا رجل حقاني» أى يقف مع الحق، مع أن الكلمة ذات جذر عربى قحّ. لماذا لا يسمح لى أن أكتب «ما هذه البلوه التى نعيش» ومسموح أن نقول: «بلاه السفر» أى أعياه مثلا.
ولماذا لا نميل لاستخدام «راح» بدل «ذهب»، مع أن الأولى أقرب إلى الذائقة. ألا يخشى الكتاب أنفسهم الاقتراب من العامية، حتى حين تكون صحيحة عربيتها؛ خوفا من اتهامهم بالركاكة.
ارتفع الجدار بين الفصحى والعامية حتى صار سدا، ووجدنا من يتحدث عن لغتين منفصلتين لا جسر بينهما. وقد يُقبل هذا الكلام من لغوى فرنسى مثل جان لوى كالفى صاحب كتاب «أى مستقبل للغات» الذى وصل به الحال حد الدعوة إلى تعليم الصغار العامية بدل الفصحى؛ لأن الثانية ليست لغتهم الأم. أما دليله على المسافة الهائلة بين الاثنتين، فهو أنه يعرف الفصحى ولا يفهم العاميات العربية. والإجابة عن كالفى بسيطة؛ فهو ليس لديه سليقة ولا بديهة العربى بالعودة إلى الجذر حين يسمع كلمة لم يألفها. فحين يقول أهل المغرب «بالسلامة» لا يصعب على اللبنانى أن يفهم لأنه يقارنها بـ«مع السلامة».
العجيبة تقع حين تقرأ اللغوية سهير السكرى وهى تدعو لأن ينقطع الأطفال فى سنوات التعليم الأولى إلى حفظ القرآن وتغييبه، دون معرفة معناه، قاطعة بأن العامية التى يعرفها الطفل لن تسعفه فى إجادة فصحاه فى شيء. وبمقدور الأساتذة أن يلحظوا بسهولة شديدة أن طلابهم الذين يتحدثون عامية مرتبكة، وجملهم المحكية غير مكتملة، هم أنفسهم من يجدون صعوبة فى تركيب جمل عربية صحيحة، عندما يكتبون ليعبروا عن أنفسهم.
وللتخلص من الإرباك اللغوى نحتاج عقد مصالحة تاريخية بين الفصحى والعامية، والتوقف عن السجالات. فليس التعصب لإحداهما سوى تطرف شديد سينتهى إلى ما انتهى إليه كل تشدد سقيم فى زمننا الرديء.
وكان طه حسين أبلغ من كتب بالفصحى فى القرن العشرين، وأبرز من دافع عنها اعترف فى النهاية، بأن روعة قصص نجيب محفوظ تأتى من أنها لم تكتب بالعامية المبتذلة، ولا بالفصحى القديمة التى يشق فهمها، وإنما كتبت فى لغة وسطى تصل لكل قارئ. ونحن لا ندعو إلى عامية تفرق كيان العرب وتبلبل ألسنتهم؛ فهذه دعوة شريرة، لكن فى العامية توجد «مصنوعات وطنية» خرجت من قرائح عربية، واشتقت بعبقرية شعبية لا تنقصها الفصاحة، ولا يعوزها الوزن، وهى بليغة وجميلة، فلنعترف لها بحقها فى الوجود كما نتقبل المعرّب والمترجم. فالألفاظ من أولى الأرحام أدعى بالقبول من تلك الآتية من فرع أجنبى لا نعرف له أصلا ولا فصلا. وما فعله الصحفيون، وما يجاهدون من أجله كل يوم، هو هذه السباحة عكس التيار كى لا تبقى المياه اللغوية راكدة آسنة، فطوبى للمجتهدين الكادحين..
الشرق الأوسط ــ لندن