الأخضر لا يموت - جميل مطر - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 12:43 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأخضر لا يموت

نشر فى : الأربعاء 22 أكتوبر 2014 - 8:45 ص | آخر تحديث : الأربعاء 22 أكتوبر 2014 - 8:45 ص

حرمتنى ظروف العمل من العيش فى مناطق خضراء. ولدت ونشأت فى قلب مدينة وتنقلت فى فترة حياتى التعليمية بين مدينة وأخرى. لم أفلح على امتداد سنوات فى أن أسكن فى بيت بحديقة، باستثناء مائة يوم قضيتها فى ضاحية من أجمل ضواحى سنتياجو عاصمة شيلى. ومن هناك انتقلت إلى إحدى عرائس المدائن، مدينة بيونس ايرس. لم تخل المدينة من اللون الأخضر ولكنه كان دائما بعيدا عنى، أركب إليه قطارا لأقضى مع الخضرة يوما على رائحة الشواء، التى هى رائحة العاصمة الأرجنتينية. على الأقل كانت هكذا فى ذلك الحين.

سكنت شواطئ بحار ومحيطات وانهار عظمى، ولكن لم تكن المياه وحدها، هادرة كانت أم ساكنة، لتمنحنى السكينة. سكنت أيضا الجبال. حتى الجبل إن لم يكن أخضر، لا يريحنى. أستسلم راضيا وسعيدا لكل ما هو أخضر ولكن ليس كل ما هو أخضر يسلب لبى. هو الأخضر الذى يلمع خضرة وبريقا، أخضر يكاد ينطق فتصدر عنه نغمات لا تسمعها إلا منه. انها خضرة اشجار غابات إقليم التيرول فى النمسا وإيطاليا، وهى خضرة تلك الشجرة فى جبل لبنان التى ملكت حواسى بلمعانها وألحانها لمواسم صيف عديدة.

•••

للون الأخضر، عندى كما عند آخرين منذ القدم، مكانة خاصة. يقال إن الأخضر، عند الفراعنة، كان يرمز إلى عودة الروح وإلى الحياة الأخرى والبعث عموما. كانت ترمز له فى الكتابة الهيروغليفية علامة جذع نبات البردى، معانٍ كثيرة فى رمز واحد: الزراعة والخضرة والنمو والقوة. كانوا يرسمون الإله أوزيريس باللون الأخضر كرمز للصحة الأبدية والحياة الأخرى، كما كانوا يحيطون باللون الأخضر العيون فى التماثيل وفى اللوحات وعلى جدران المقابر والمعابد لطرد الشر ودرء الحسد. وفى لغتهم كانت كلمة البحر تعنى «الأخضر جدا».

•••

الرومان اختاروا لفينوس إلهة الحدائق ومزارع العنب والخضروات اللون الأخضر. وفى العصور الوسطى اختار الناس الأخضر لونا لملابس الرجال والنساء من طبقة التجار، واختاروا للنبلاء اللون الأحمر، وللفلاحين اللون البنى وأحيانا اللون الرمادى. ويعرف أغلبنا أن موناليزا تظهر فى لوحتها الشهيرة مرتدية اللون الأخضر مما أوحى بأنها كانت من عائلة تنتمى للطبقة الوسطى. ومع ذلك لم يكن الأخضر دائما لون الخير خلال القرون الوسطى وبدايات عصر النهضة، إذ ظهر يهوذا فى بعض اللوحات مرتديا الزى الأخضر، بما يؤكد حقيقة أنهم كانوا يعتبرون الأخضر لون الجشع والمال والكذب والخداع. ولعل فى اختيار الأخضر اللون المفضل لموائد القمار علاقة بهذا الاعتبار. نعرف أيضا أن المرابين كانوا مجبرين على ارتداء قبعة خضراء، والغريب أن الأقدمين فى الشرق الأوسط كانوا يصرون على أن ترتدى العاهرات وعائلاتهن ربطات رأس خضراء اللون.

•••

وفى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ارتبط اللون الأخضر بالحركة الرومانسية فى الفنون والآداب. قيل إن الشاعر والفيلسوف الألمانى جوته كان يصف اللون الأخضر باللون المريح، وكان ينصح باستخدامه للستائر والجدران فى غرف النوم. وربما يعود الفضل فى الاستخدام الواسع لهذا اللون فى المستشفيات وغرف العمليات الجراحية لهذا التصور الذى ساد فى ألمانيا فى قرون سابقة. الغريب أن هذا التصور بدا متناقضا مع تصور آخر مصدره أيضا ألمانيا، عندما كان سائدا أن اللون الأخضر يرمز إلى القوة، بدليل أنهم كانوا يدهنون الرجال الأشداء باللون الأخضر. ويبدو أن هوليوود أخذت عنهم هذا التقليد عندما قدمت للسينما شخصية الرجل الأخضر صاحب القوة الخارقة.

•••

جدير بالذكر حقيقة أن الأوروبيين استخدموا اللون الأخضر لتلطيف الأمزجة التى عكرتها رداءة الهواء خلال الثورة الصناعية. كانوا يرمزون للثورة الصناعية ومداخنها ودخان مصانعها وقتامة لونها ورداءة جو المدن باللون الرمادى ويرمزون للتمرد على سلبيات هذه الثورة باللون الأخضر. كان الناس بالفعل فى حاجة لما يريح أعصابهم من ضغوط المدينة وظروفها الصعبة. كانوا فى حاجة لكل ما هو أخضر اللون.

•••

أكدت دراسات حديثة وعديدة صحة ما قال به جوتة والسابقون. فقد اكتشف الباحثون أن الأخضر مريح للعين ومزيل للتعب، على عكس اللون الأحمر. أكثرنا على ما أظن يشعر فعلا بالتناقض الصارخ بين اللونين عندما نراهما يشتركان فى زينة رجل أو امرأة أو حتى فى إعلان تجارى أو كطلاء بيت. يكفى دليلا على هذا التناقض اختيارهما كضدين فى إشارات المرور فى كل انحاء العالم. الواضح أن ثقافات العالم أجمعت على كون الأحمر والأخضر نقيضين لا أمل فى التقائهما أو حتى التوفيق بينهما.

•••

الأخضر، لون الجمال. السودانيون يطلقون على المرأة قاتمة السواد خضراء. الفرس يطلقون عليها «سبز مليح» أى الجمال القاتم. وفى الصين يعتبرون الأخضر رمز شروق الشمس والحياة والنمو. الأخضر، لون الربيع. هو الأمل فى أن يأتى بعد اليأس أمل، وبعد التعب راحة، وبعد القسوة أحضان وحنان. ودليلنا الأعظم فى زهوة وازدهار خضرة النبات فى الربيع بعد تجربة مؤلمة وقاسية مع شتاء قارس لا يرحم. الأخضر لا يموت. دائما يعود.

•••

سمعة «الأخضر» تسبقه. انت تفضل المياه الغازية خضراء لأنها تنعش أكثر من المياه الغازية غير الخضراء. انت تعتقد أن اللون الأخضر مضاد للتآكل والصدأ فتدهن به صناديق القمامة. أهلك وأهلى كانوا، فى قديم الزمن، يكسون أولادهم حديثى الولادة بالأخضر أملا فى صحة جيدة، ويختارون ملابس خضراء لبناتهم فى سن المراهقة أملا فى سرعة تزويجهن. كثيرون يعتقدون أن اللون الأخضر يعنى صحة وصدقا وأمانة ونظافة، ولذلك قرر بعضهم تشكيل جمعيات أهلية تهتم بالأخضر، وأطلقوا على أنفسهم اسم «الخضر» وجعلوا من «الأخضر» ايديولوجية وشكلوا له أحزابا سياسية.

•••

نقلوا عن باستورو المؤرخ الفرنسى قوله، إن اللون تاريخ. وأعتقد أنه لم يبالغ، بل أريد أن أضيف إليه من عندى قولى إن للأخضر علاقة قوية بالحب. أنا شخصيا لا أرى الحب منتعشا كما يجب أن يكون فى مدينة رمادية اللون أسمنتية الهياكل والعقول حجرية الأحاسيس والقلوب. الأخضر مسئول عن أروع حكايات الحب. وهل هناك أروع من حكاية الحب بين آدم وحواء عند جذع شجرة خضراء. جمعتهما الشجرة ولم تجمعهما الحية. حتى الحية أصر أشهر الرسامين على أن تظهر فى لوحاتهم خضراء اللون.

•••

الربيع بخضرته المتجددة أمل دائم، وسيظل يمثل لنا فى مصر الأمل الأعظم فى النمو والنهضة واستعادة جمال ونقاء وطن.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي