سعدت سعادة كبيرة بعد فوز رواية (سبع رسائل لأم كلثوم) بواحدة من جوائز كتارا للرواية (فئة الأعمال المنشورة) التى تم الإعلان عنها هذا الأسبوع، ليس فقط لأننى أحب أم كلثوم وإنما لأن الرواية التى قرأتها قبل شهور على درجة عالية من الإتقان وذات حساسية جمالية رفيعة المستوى.
كما أنها ليست بعيدة تمامًا عما يجرى حولنا، فمؤلفها الفلسطينى علاء حليحل، أحد أبرز الأصوات الأدبية داخل الأراضى المحتلة، وهو ناشط ثقافى فاعل داخل دوائر كثيرة هناك.
تنطوى الرواية على إشارات مهمة تكشف مركزية الثقافة المصرية وتأثيرها الفعال فى تكوين المخيلة اليومية للمواطن الفلسطينى داخل الأراضى المحتلة وهو فى ذلك شأن أى عربى آخر.
هذه المسألة المهمة تقول بشكل قاطع أن هوية عرب إسرائيل لا تزال هوية عربية على الرغم من محاولات إسرائيل لمحو هذه الهوية وطمسها.
تتابع الرواية من خلال عائلة صغيرة الأثر الذى خلفته النكبة وامتد للأجيال الجديدة وصاغ دوائر علاقاتها مع الجانب الإسرائيلى المحتل بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، وما صاحبها من تحولات. فقد اضطرت الزوجة فى هذه العائلة إلى الزواج من ابن عمها الذى تقدم لخطبتها، وهو يحبها حبًا جمًا، وعلى علم تام بفشل تجربة حب خاضتها مع جارها الذى هجرها وغادر لدراسة الطب فى ألمانيا، لكنه حين يعود مضطرًا إلى تلقى العزاء ترتبك مشاعرها مرة أخرى بطريقة تكشف هشاشة الوضع الذى تعيشه مع زوجها (مصطفى) الذى لا يشاركها نفس الاهتمامات.
ينهمك الزوج فى عمله، كما لا يجد الوقت اللازم للبقاء مع الزوجة ومشاركتها ما تحب كإمرأة رومانسية عاشقة للقراءة والكتابة ولصوت أم كلثوم منذ أن علمها شقيقها وقت الطفولة كيف تنمى هذا الاهتمام وتعتنى به ليصبح ملمحًا أصيلًا فى شخصيتها العذبة.
فى الإطار العام تبدو هذه السردية تقليدية تمامًا، لكنها تختلف حكما فى التفاصيل الصغيرة التى تؤسس تأسيسًا يعتمد على شاعرية الوجدان أكثر من اعتمادها على مانشيتات الصحف وعناوين الأخبار اليومية، فهى سردية تقوم على احترام الضعف الإنسانى.
فى مقابل التكوين العذب لشخصية (هاجر) يبدو الزوج صلبًا جادًا فى معاملة ولديه (يزن) و(نور) ما يعزز أسباب الزوجة فى تجنب زوجها الذى يعانى من مأزق وجودى آخر يتعلق بشعور ينمو داخله بأن قضية فلسطين لم تعد تعنيه، لأنه ينعم بهوية مزدوجة ويدير محجرًا يدر عليه الكثير من المال ويضطر إلى التعاون مع الإسرائيليين دون أدنى درجات الشعور بالذنب أو الخيانة.
اعتادت الزوجة أن تكتب رسائل إلى أم كلثوم تسرد فيها الكثير من يومياتها وتعبر عما تعانيه من فقد وحاجة إلى شريك يفهم مشاعرها التى تزايدت بعد أن خذلها العاشق القديم، كما تدير حوارًا معها عبر أغنياتها عن الفراغ الذى يزحف إلى روحها.
تتعدد فى النص صور المقاومة والالتصاق بالأرض والذاكرة، ومن بينها مظاهر ارتباط العائلة بالبيت كفضاء أليف أو بالحكايات الشعبية التى تحكيها (هاجر) لتعزيز معنى الارتباط بالأرض لدى أولادها حتى إن أحدهما يقول لها دائمًا (بدى أكبر لأصير فلسطينى).
فى مساحات كثيرة تسخر الرواية من منطق إسرائيل فى ضرورة حماية المناطق التى تقع سيطرتها من عرب الداخل.
يدين النص مصطفى منذ البداية لأنه (خانع) رأسه محنى يساير الأحداث، بل تعتبره الزوجة خائنًا أو جبانًا يملأ الكنبة بضعفه وانكساره أمام ما يحدث، لكنه يكون رجلًا حديديًا معها ومع الأولاد، وهو يبالغ فى التمييز بينهما، يناصر أحدهما على حساب الآخر كمعادل موضوعى يجسد صور التمييز التى عانت منها بعض القوى الفلسطينية.
وتقول: «يأتينى برجولته وأنا أعرف أنها رجولة مزيفة، يخفى خلفها خوفه، لكنها تشفق عليه وتحتقره فى آن».
ويتعزز لدى القارئ هذا الشعور، وهو يتابع مشهد تبادل مصطفى لسجائره مع الجنود الإسرائيلية على نحو يدفعه إلى البكاء، فهو يعرف فى قرارة نفسه أنه متخاذل.
يظل موقف القارئ من مصطفى ثابتًا إلى أن يغير من سلوكه تمامًا، ويكتسب مع كل خطوة أنصارًا من بين القراء الذين يماثلون جمهور السينما، وهم يصفقون قبل مشاهد النهاية لبطل يتبنى رغباتهم.
تدين الرواية على نحو واضح الأصوات التى تناصر إسرائيل، وتتعاون معها بالذات من بين العرب الذين جاءوا إلى المناطق المحتلة، وترد إشارات كثيرة للمذيعين العرب الذين هاجروا إلى تل أبيب فى الخمسينيات، وتنكروا لعروبتهم كأنما هو تكرار لفعل الخذلان الذى يهيمن على النص منذ البداية وتكريس معنى النكبة.
تكتب هاجر هواجسها فى رسائلها إلى أم كلثوم وتلامس الكثير من الأسلاك الشائكة: «نحن يا سومة لا نقوى على تحديد تعريف دقيق وافٍ للوطن، لكننا نعرف تمامًا ماذا يعنى غيابه».
كما تكتب لها متسائلة: لماذا ننظر إلى النزوح بوصفه فعلًا أقوى من اللجوء؟
هل من يموت أكثر وأسرع يا سومة أهم من الذى يعيش بعيدا عن أرضه أم الذى يعيش قريبا منها وقد تحولت إلى (كيبوتس) أو مزرعة لإنتاج البيض العبرى!
نقف مع منا؟ من يتحسر فى المنفى على ضياع فلسطين أم من يعيش هذا الضياع تائها فى صحراء من المنفى الداخلى؟
ساهمت اللغة الشعرية داخل الرواية فى رسم صورة رومانسية للأجواء تلائم تكوين شخصية (هاجر).
ويمثل استدعاء رواية (المتشائل) لإميل حبيبى داخل الرواية تمثيلًا رمزيًا لهذه الفئة من الفلسطينيين، وربما جاء بمثابة تحية لدوره كرمز لجيل من الكتاب الذين يواصلون أداء أدواره.