الدروس «الأوكرانية» - أيمن الصياد - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 6:25 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الدروس «الأوكرانية»

نشر فى : الأحد 23 فبراير 2014 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأحد 23 فبراير 2014 - 8:00 ص

كانت شمس قرنٍ قادم (الحادى والعشرين) مازالت عند الأفق ترسم الملامح الأولى لحقائق قرنٍ جديد. يومها بدا بعضُ العائشين فى القصور وكأنهم لم يستيقظوا بعد. ويومها سمعنا الرئيس الأوكرانى ليونيد كوتشما Leonid Kuchma متحدثا فى لا مبالاة عن مظاهرة للمعارضة صغيرة نسبيا «لو أننى رأيت مائتى ألف شخص لتقدمت باستقالتى».. فى عام ٢٠٠٤، كان هناك حوالى خمسمائة ألف متظاهر يلوحون بالأعلام «البرتقالية» فى شوارع «كييف». وكان على خليفته المختار فيكتور يانكوفيتش Viktor Yanukovych أن يستقيل فورا بعد انتصاره الزائف فى الانتخابات. يومها أطلق العالم «العولمى الجديد» اسم «الثورة البرتقالية» على ما جرى فى أوكرانيا (ثانى قوة عسكرية فى أوروبا بعد روسيا) وهى واحدة من سلسلة الثورات «الملونة الجديدة» التى اصطدمت بالتعريفات «التقليدية» للثورة فى علوم السياسة والتاريخ، كما كانت عنوانا لتغييرات أخرى كثيرة وجذرية فى مفاهيم عديدة لنظم الحكم والعلاقات الدولية كانت قد استقرت لعقود.

فيكتور يانكوفيتش؛ الذى ثار الناس على «صناديقه الزائفة» فى ٢٠٠٤ هو ذاته الذى ثاروا عليه اليوم عندما اعتقد أن بإمكانه أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء مستدعيا تاريخا «سوفياتيا» انقضى. متجاهلا طموحات جيل «عولمى» يريد أن يكون جزءا من هذا العالم «الجديد».

وفيكتور يانكوفيتش، هو ذاته «الرئيس» الذى بعد حديث تقليدى عن «الشرعية» وصناديق الاقتراع، واتهام للمعارضة بالابتزاز وتصعيد الأزمة فى محاولة سافرة للاستيلاء على السلطة (شاركه فيه الوزير الروسى سيرجى لافروف) قبِل على طاولة وزراء الخارجية الأوربيين أن يوقع على اتفاق يوافق فيه على انتخابات مبكرة، وحكومة «إئتلافية»، وتعديلات دستورية، فضلا عن إبعاد وزير الداخلية والنائب العام الحالى عن أى حكومة انتقالية قادمة.

ولكن في عصر جديد «سريع» لا أحد ينتظر .. تأخرت استجابة الرئيس، فأُطيح به في النهاية. وإن كانت هذه بالطبع ليست نهاية القصة.

ليس للمراقب للشأن الأوكرانى أن يأخذ مشاهده الأخيرة بعيدا عن سياق سنواتها العشر المضطربة والمائجة. فقصة الحدث الأوكرانى، وصناديقه السوداء، وخلفياته المعروفة «وغير المعروفة» طويلة ومتشابكة. فيها رائحة الغاز والنفوذ، وظلال الكرملين وأصداء لوكسمبورج، وحكايا الحسناء الشابة يوليا تيموشينكو «جان دارك الثورة البرتقالية» التى أصبحت إعلاميا «أميرة الغاز» بعد أن وجهت لها حكومة يانوكوفيتش اتهامات بالفساد فى مجال النفط أوصلتها للسجن. ولكن كل ذلك يبقى فى باب التفاصيل. إذ إن القصة الأوكرانية فى النهاية تظل فصلا من الفصول الأولى لترتيبات ما بعد سقوط حائط برلين. وحكاية من حكايات ثورات بداية القرن «الملونة». ونحن هنا نحاول فقط أن نقرأ «الدروس» فى صورها ومشاهدها الأخيرة. التى هى فى نهاية المطاف ظلال لواقع جديد وعالم «عولمى» جديد.

•••

ماذا عساها تقول لنا الصور والمشاهد الأوكرانية:

١ــ إن الصندوق «وحده».. أكرر «وحده»، لم يعد ضمانا لاستقرار سياسى «يدوم» فى عصر تلك الثورات «المخملية / الملونة / الربيعية» الجديدة. فهناك جماهير متململة، وإيقاع «شبابى» سريع، وانتقال «مبتسر» لأشكال ديموقراطية غابت عنها متطلبات «العدالة الانتقالية» اللازمة لإنجاز انتقال «حقيقى» لديموقراطية حقيقية. وبالتالى، لم ينجح «الصندوق» خارج سياقه الطبيعى، أن يوفر النتائج ذاتها من استقرار ورضا جماهيرى، التى يوفرها عادة فى مجتمعات استقرت ديموقراطيا. فلم يكن الأوكرانى فيكتور يانوكوفيتش الرئيس الوحيد الذى ثار عليه الناس رغم وصوله إلى الحكم عبر صناديق اقتراع «شفافة»، ففى صربيا مثلا كان سلوبودان ميلوسيفيتش Slobodan Milosevic قد تمكن من الفوز بسلسلة من الانتخابات قبل أن تطيح به عام ٢٠٠٠ واحدة من تلك «الثورات» الجديدة.

٢ــ إن آلة القمع رغم ضراوتها وقسوة تراثها «الستالينى» لم تنجح فى أن تحمى النظام أو تحول دون كسر إرادته. بل بالعكس، تقول قوانين عصر جديد إنه كلما زادت قسوة القمع، كلما زادت ضراوة المقاومة، وفقد النظام غطاءه الشعبى. حتى وإن بدا فى البداية غير ذلك.

باختصار، تقول دروس العقود الثلاثة الأخيرة «عصر الثورات الملونة» أن أمنا «غبيا»، لا يدرك قوة «الصورة»، وإعلاما «منافقا» لا يعرف أن هذا عصر السموات المفتوحة، وبيروقراطيون فى «مكاتبهم» لا يعرفون كيف يفكر جيل «شارع» جديد يلعبون كلهم فى النهاية الدور التقليدى للدب الذى يقتل صاحبه. ويمهدون الأرض، دون أن يدرون ربما لسقوط نظام يعتقدون أنهم يدافعون عنه.

٣ــ إن هواجس العودة إلى الماضى، كما جرى مع الحكومة الحالية التى استدارت إلى حليفها القديم على حساب طموحات وتوقعات لجيل «عولمى» جديد، كفيلة بإثارة شارع بات فى عصرنا هذا يحكمه جيل جديد ومعادلات جديدة.

٤ــ إن مفهوم «السيادة الوطنية» الذى تعارفت عليه علوم السياسة وكانت حدوده محلا لجدل نظرى وقت إنشاء الأمم المتحدة منتصف القرن الماضى لم يعد أبدا كما كان. فأنت الآن «جزء» من عالم يحكمك «واقعيا»، دون حاجة إلى اتفاقات أو معاهدات تنتظر توقيعا أو تصديقا. (وفى هذا تفصيل كثير). فإنهاء الأزمة الأوكرانية جرى فعليا فى اجتماع للرئيس مع وزراء خارجية أوربيين، لم تغب عنه أصداء قرار أوروبى بالبدء فى تطبيق عقوبات اقتصادية. كما كان فى خلفية المشهد حقيقة أن أكثر من ٦٠٪ من زمن إرسال القناة الأوروبية العامة euronews جرى تخصيصه للشأن الأوكرانى ولتغطية الاحتجاجات فى ميدان الاستقلال.

ولمن لم يدرك بعد ما جرى للمفهوم «التقليدى» للسيادة الوطنية، أن يعيد قراءة بعض من دروس الجوار، إن فى العراق شرقا أو ليبيا غربا أو حتى السودان فى الجنوب. ثم عليه أن يقارن بين ردود الفعل الأفريقية على «انقلابات عسكرية» شبه يومية فى هذه الدولة أو تلك طوال النصف الثانى من القرن العشرين، وبين ما تعرضت له مصر من الكيان الأفريقى ذاته لمجرد اختلاف حول فهم ما جرى «أو يجرى» فى مصر فى الأشهر الأخيرة.

٥ــ صحيح أن نظرية «نظام عالمى يقوم على قطب واحد» لم تصمد كثيرا رغم كل ماتم فتحه من زجاجات الشمبانيا احتفالا بمرور ربع قرن على سقوط جدار برلين، ولكن صحيح أيضا أن الذين يعتقدون «بعودة» نظام ثنائى القطبين، تحكمه آليات وقواعد حكمت العلاقات الدولية فى النصف الثانى من القرن العشرين عليهم مراجعة أنفسهم.

٦ــ الدرس «الرئيس» مما جرى فى أوكرانيا وغيرها من دول «ربيع ما بعد الاتحاد السوفياتى» أن الاكتفاء بطلاء المبنى «القديم» بألوان براقة مستعارة من الديموقراطيات الغربية، لم يكن أبدا كافيا. فقبل الطلاء لابد من العمل الجاد على إصلاح المبنى «النظام» ذاته. وفى ذلك حديث طويل بُحت أصواتنا به.

•••

خلاصة «الدروس الأوكرانية» على مدى أعوام عشرة، أن العلاقة بين «القصر والشارع» فى عصر صياغة مجتمعات ما بعد الثورات الجديدة لم تعد أبدا كما كانت. فلم يعد «للقصر» مهابته، بعد أن ذهب بالخوف تلاحم «شبكات التواصل الاجتماعى» التى تمنح بطبيعتها إحساسا خفيا «بقوة المجموع».

لم تعد للقصر مهابته، كما لم يعد محميا خلف أسواره العالية. لاحظ صورة الأسوشيتدبرس للمتظاهرين الأوكرانيين يحاولون اقتحام القصر بالبلدوزر، وهى الصورة ذاتها التى شهدناها يوما فى مصر عند أسوار الاتحادية.

بعد عقود من علاقة «فوقية» بين القصر والشارع، خاصة فى أنظمة شمولية تقوم على الخوف أو عدم الاكتراث أو «السمع والطاعة». وبعد عقود تقوم على الصناعة الثقيلة، و«مركزية» المؤسسات، ومركزية الإدارة. جاء الانترنت «بشبكته العنكبوتية» غير المركزية ليهدم كل هذا، وليضع موازين جديدة لعلاقات قوى ينتفى فيها المركز. فالكل شركاء. وكلنا سواء. وجاءت الميادين؛ سواء «التحرير» فى مصر أو «الاستقلال» فى أوكرانيا لتثبت على الأرض أن الشارع أقوى من القصر. ولتصبح تلك قاعدة فى علوم السياسة ونظم الحكم المعاصرة. ومن لا يريد أن يتعلمها، لابد أن يدفع الثمن

باختصار، مفهوم الديموقراطية ذاته يوشك أن يتغير ليقترب بديموقراطية الشارع «العنيد» من ديموقراطية الصندوق المتعارف عليها. على الأقل فى المجتمعات التى لم تستقر بعد.

بالمناسبة، على الناحية الأخرى من الأطلنطى تموج العاصمة الفنزويلية بتظاهرات شبابية مشابهة، (راحت ضحيتها ملكة جمال فى الثانية والعشرين من العمر)، وفى تكرار للكلمات ذاتها، خرج الرئيس الفنزويلى نيكولاس مادورو ببيان متلفز ذكر فيه أن من يرغب فى رؤيته خارج الحكم عليه الانتظار حتى عام ٢٠١٦. فهل حقا ينتظر الشارع؟

الإجابة فى كييف.

•••

تبقى ملاحظة أن فى الأسبوع ذاته الذى وصلت فيه صدامات كييف إلى ذروتها، اشترت Facebook «الشابة» موقع التخاطب الفورى الشهير WhatsApp فى صفقة وصلت إلى ١٩ مليارا من الدولارات، فى رسالة ربما لم تصل إلى كثيرين مفادها ببساطة أن زمن عمالقة الفحم والصلب والغاز فى عصر الصناعة قد انقضى، وشاخت قوانينه. وهذا زمان «شاب» جديد.

•••

وبعد..

فقد يظن البعض أن هذا تذكير «أو تبكيت» لحاكمَين غادرا القصر عنوة، ولكننى أحسب أن أحيانا يكون فى ذكر ما فات تذكيرٌ لمن هو آت. فالحقيقة التى لامناص منها أننا فى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين. وهناك زمان قد تغير، ولهذا حكمه، وإن لم يدرك البعض. كما أن المقدمات نفسها، تؤدى بالضرورة إلى النتائج نفسها. وهذا، منذ خلق الله آدم «الدرس الذى لم يتغير».

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات صلة

ــ يوميات أوكرانية .. بالصور

ــ عن «العدالة لانتقالية» .. المفهوم

ــ الوطن .. الذي نريد

أيمن الصياد  كاتب صحفى
التعليقات