شوفوا من الغربال! - بلال فضل - بوابة الشروق
الأربعاء 11 ديسمبر 2024 2:29 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شوفوا من الغربال!

نشر فى : السبت 23 نوفمبر 2013 - 7:00 ص | آخر تحديث : السبت 23 نوفمبر 2013 - 9:40 ص

لا أحد بيننا يريد أن يقرأ الدروس التى يلقنها لنا القدر، ولذلك تتكرر من حين لآخر بحذافيرها، ليس لأن القدر عاجز عن الإبتكار، بل لأنه يرانا عاجزين عن الفهم ولا نستحق منه حتى عناء التجديد.

لم نتعلم شيئا من مأساة أتوبيس أطفال أسيوط فى العام الماضى فجاءنا حادث أتوبيس دهشور فى نفس الموعد وبنفس التفاصيل ولكن بضحايا جدد وقطار إهمال مختلف. فى حادث اغتيال المقدم محمد مبروك تكررت نفس التفاصيل المريبة التى اغتيل بها النقيب محمد أبو شقرة، ليتكرر التساؤل عن قدرة الدولة الأمنية على حماية مواطنيها إذا كان هذا حالها مع كبار ضباطها. بعد مذبحة رفح الثانية لم تفعل الدولة شيئا لحماية مجنديها لكى لا يكونوا صيدا سهلا لغدر الإرهاب، وبدلا من أن نعرف هوية منفذى مجزرة رفح الأولى التى كان الإعلام الأمنى يقول أن وجود الإخوان فى السلطة يمنع معرفتهم أصبح لدينا أكثر من مجزرة نحتاج إلى معرفة منفذيها وتقديمهم للعدالة. لم نتعلم من أحداث الإقتتال الأهلى التى فجرها الإخوان أمام قصر الإتحادية وأمام مكتب الإرشاد فى المقطم فقررنا أن نستبدل قتل الداخلية للمتظاهرين فى محمد محمود لعامين على التوالى باقتتال أهلى كان يمكن ألا يحدث لو احترم قتلة شهداء محمد محمود المستمرين فى السلطة حق رفاق الشهداء فى إحياء ذكراهم والمطالبة بحقوقهم.

كلها يومين تلاته، وستروح حادثة الأتوبيس المدهوس لحالها فى متاهات الذاكرة الجمعية التى تعلمت تسريب الجراح القديمة لإخلاء المكان لجراح جديدة ينزفها دائما السكان الأصليون لمصر. ولن يكون من حق أحد أن يسأل عما يتم إتخاذه من إجراءات لوقف إستشهاد الضباط والمجندين فى المناطق التى تتكرر فيها الأحداث الإرهابية، فالمطلوب من المواطن أن يفوض «عمياني» دون أن يسأل عن نتائج التفويض وثماره. وما حدث فى محمد محمود سيصبح إسمه (محمد محمود 3)، ولن نحسم بسهولة ما إذا كان ضحاياه إخوان وطابور خامس لا ثمن لدمائهم، أم أنهم مواطنون صالحون يستحقون أن نمنحهم ما حصل عليه سابقوهم من قصاص عادل، لم يكن سوى فقرة فى بيان لوزارة الداخلية تحيى نضالهم من أجل الديمقراطية.

حتى قضية التخابر المتهم فيها محمد مرسى والتى دفع المقدم محمد مبروك حياته ثمنا لها كما تقول بيانات المصادر الأمنية، ستبقى لغزا مجهول التفاصيل برغم وجود مرسى فى السجن، ربما لأن إدانة مرسى فيها ستقود إلى إدانة مسئولى الأجهزة السيادية فى مصر، لأنهم فى الوقت الذى قبلوا فيه بتقديم طعون فى رئيس المخابرات العامة السابق شخصيا وفى غيره من المرشحين، سمحوا لمن يتهمونه بالتخابر الآن بالوصول إلى مقعد رئيس الجمهورية، مع أنهم لو كانوا يعلمون بأنه جاسوس لكانت تلك مصيبة، ولو لم يكونوا يعلمون لكانت المصيبة أعظم، ولكان مكانهم الطبيعى فى الحالتين إلى جواره فى قفص الإتهام.

أنصار جماعة الإخوان غاضبون بدورهم من المسارعة فى توجيه أصابع الإتهام نحو جماعتهم وحلفائها، مستخدمين الإكليشيه المعتاد حول عدم التسرع فى توجيه أصابع الإتهام، وهو الإكليشيه الذى لا يتذكره الناس إلا إذا كانوا عرضة للإتهام بينما ينسونه عند إتهامهم الآخرين، مثلما حدث أيام حكم محمد مرسى عندما كان الإخوان يسارعون لإتهام جبهة الإنقاذ فى كل مصيبة يتسبب فيها الإهمال أو الفساد. ينسى الإخوان أن اتهامهم بالمسئولية عن اغتيال المقدم مبروك ليس فقط لدوره فى محاكمات قادتهم، وليس لتاريخهم القديم فى الإغتيالات خصوصا حين تتعرض الجماعات للأزمات، وإنما لأن من يمارس أقصى درجات الغباء وهو متربع على كرسى السلطة فيتحالف مع الجماعات التى تؤمن بالعنف متصورا أن ذلك سيدعم موقفه فى السلطة، لا بد عليه أن يسدد ثمن ذلك التحالف الغبى كاملا، ومن يرفع صوته عاليا بتهديدات «اللى هيرش مرسى بالمية هنرشه بالدم»، لن يسمعه أحد لو رفع صوته عاليا بصيحات «مش أنا والله دى أكيد مؤامرة»، فالمؤامرة يلزم لتنفيذها طرفان: غبى متكرر الغباء ومتآمر يستغل تكرر الغباوات جيدا.

وسط كل هذا الولع بالدم لم يعد غريبا أن تجد من يشمت على فضائه الإلكترونى فى اغتيال ضابط أمن دولة، تماما كما سبق أن وجدت على الفضاءات والفضائيات من يبرر ويبارك القتل الجماعى لأنصار الإخوان، دون أن يشوف الجميع من الغربال ليدركوا أن من يعيش فى غابة لن ينجو أبدا من فتك شريعة الغاب. ما أعرفه أن من يريد أن ينتصر على ضابط أمن دولة يراه ظالما أو فاسدا عليه أن يناضل من أجل محاكمته ومحاسبته بالطرق السلمية، لا أن يغتاله غدرا فيعطى لزملائه المزيد من مبررات القمع والظلم، وعلى من يعتبر أن ما أقوله نكتة سلمية، أن يثبت لى بواختها بتذكيرى بتجربة ناجحة فى العالم كله تمكنت من تطهير الأجهزة الأمنية بعمليات الإغتيالات، كما طالبت من قبل أن يذكرنى أحد بتجربة ناجحة فى العالم تمكنت من فرض الإستقرار بالقمع دون السياسة، فما أعرفه أن الإستقرار والأمن بحدهما القابل لجذب الإستثمارات وبناء الإقتصاد كانا فقط من نصيب الدول التى أدركت خطورة الطرمخة على الظلم والقمع فطهرت أجهزتها الأمنية بإعادة هيكلتها واسندت قيادتها لشخصيات مدنية تحترم القانون وحقوق الإنسان ولا تعامل مواطنيها كعبيد أو مواشى «ماتجيش إلا بالعين الحمرا».

منذ أن اندلعت الثورة أنتجت مصر ملايين الأطنان من الكلمات المكتوبة والمذاعة والمتلفزة والمهتوفة التى تطالب بتطهير الأجهزة الأمنية وإعادة هيكلتها، تم تأييدها بآلاف الأقدام المكعبة من الإشارات بالأصابع والأصوات الحلقية والإفرازات الدمعية والعرقية والأنفية، ولم تتم مقابلة كل هذا من طرف الدولة إلا بالمزيد من إراقة الدماء، وللأسف، كعادتنا فى تجاهل دروس القدر فإن لون الدم لا يثير لدينا الرغبة فى الفهم لإيقاف إراقته، بل يثير لدينا الرغبة فى الإنتقام لإراقة المزيد منه، وللأسف سنظل نعيش فى تلك الدائرة الدموية الملعونة، طالما رفضنا النظر فى الغربال لكى نتعلم حقيقة بسيطة أصبحت معلومة من الكون بالضرورة وهى أنه «لن يكون أبدا جزءا من الحل من كان جزءا من المشكلة».

يا خفى الألطاف نجنا مما نخاف.