حكاية مصر والاستثمار الخارجى - أيمن زين الدين - بوابة الشروق
السبت 4 مايو 2024 1:34 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حكاية مصر والاستثمار الخارجى

نشر فى : الثلاثاء 25 أبريل 2023 - 7:50 م | آخر تحديث : الثلاثاء 25 أبريل 2023 - 7:50 م

رغم أن هدف جذب الاستثمار الخارجى احتل موقعا رئيسيا فى أولويات سياسة مصر الاقتصادية منذ بدء سياسة الانفتاح عام 1974، فما تحقق منها فعليا كان أقل كثيرا من التطلعات والاحتياجات، وقاصر مقارنة بما حققه عدد غير قليل من الدول النامية. وقد أتاحت لى مسيرة عملى الاقتراب من جهود مصر لتشجيع الاستثمار والمشاركة فيها، كما أتاحت لى الاطلاع على تجارب العديد من الدول الأخرى، وأحاول هنا عرض ما خرجت به من نقاط يمكن أن تساعد فى تطوير أدائنا فى هذا المجال. إلا أنه من الواجب فى البداية إيضاح أن هذه ليست إلا زاوية واحدة من زوايا الرؤية، قد تكمل زوايا أخرى للرؤية، لكنها بالقطع لا تغنى عنها، أخص منها بالذكر الكتابات القيمة للوزيرين السابقين، والعقليتين المصريتين المتميزتين، الدكتور زياد بهاء الدين والدكتور أحمد جلال.
والحقيقة أن هناك اتفاقا على أهمية الاستثمار الخارجى المباشر المحورية لمصر. وبدون الدخول فى تفاصيل ليس هذا محلها، يقدر الخبراء أن تحقيق فرص عمل تكفى لاستيعاب الزيادة السكانية والقوى العاملة المعطلة بالتراكم، وقيمة مضافة ترفع مستوى معيشة السكان عموما، يتطلب تدفق استثمارات خارجية تذهب غالبية التقديرات إلى أنها تزيد على 20 مليار دولار سنويا بشكل متواصل، أى ما يقرب من 10 أضعاف متوسطها فى السنوات الأخيرة، لا سيما مع تناقص المساعدات والقروض التى لم يعد متاحا لمصر الحصول على ما يكفى منها أو تحمل أعباء زيادتها.
• • •
ومن أبرز الملاحظات على أداء مصر فى تشجيع الاستثمار هو تذبذب درجة الاهتمام به، بصورة تضعف من مصداقية جهود اجتذابه. ففى كل مرة أبرمت مصر اتفاق للإصلاح المالى والنقدى مع صندوق النقد الدولى، واستعادت قدرتها على تلبية احتياجاتها العاجلة بفضل حزم التمويل التى تستهدف عبور مصر أزمتها وحتى تتمكن من الاعتماد على الاستثمار الخاص، ومشتروات الأجانب لأذون الخزانة نتيجة تخفيض قيمة الجنيه ورفع سعر الفائدة، تراخى الاهتمام الحكومى بجذب الاستثمار. يظل الأمر كذلك إلى أن تبدأ هذه التدفقات فى التراجع كما هو متوقع، وحينئذ فقط نرى الالتفات الجدى إلى أهمية الاستثمار لسد فجوة الموارد، وتخفيف الأعباء الاجتماعية لبرنامج الإصلاح. المشكلة هى أن هذا يكون بعد انتهاء قوة الدفع الأولى للبرنامج، عندما يفقد جانبا مهما من رونقه وتقل فاعليته، بينما لو تم اعتبار الاستثمار أولوية من البداية، لأمكن توظيف التدفقات المالية الكبيرة فى تحفيز الاستثمار، وفى إثبات أن هناك التزاما حقيقيا ومستداما بتشجيعه.
إلا أن الملاحظة الأهم هنا هى شيوع الاعتقاد بأن جذب الاستثمار يكفى معه تطبيق برنامج للإصلاح المالى والنقدى والتشريعى، ثم القيام ببعض حملات للدعاية، بينما لا تعدو هاتان الخطوتان كونهما الحلقتين الأولى والأخيرة من سلسلة طويلة من السياسات والإجراءات الضرورية لزيادة الاستثمار الخارجى المفيد. وعموما، فقد اقترنت قصص النجاح فى جذب الاستثمار ــ بجانب ما سبق ــ بتوافر كل أو أغلب العناصر التالية:
1ــ استقرار سياسى وأمنى حقيقى ومستدام وعميق الجذور، لا يخفى تحت السطح عوامل عدم استقرار قابلة للتفجر.
2ــ بنية أساسية كافية ويمكن الاعتماد عليها وعلى تطورها المستمر.
3ــ قوة عاملة متنوعة المستويات والمهارات تملك القدرة والحافز على العمل، وبتكلفة تنافسية، من حيث الأجر والإنتاجية والانضباط ونسب الفاقد والتالف، وتوازن قوانين العمل، وغيرها.
4ــ سوق محلية كبيرة وبها قوة طلب يعول عليها، و/أو أسواق خارجية مغرية يمكن الوصول إليها من الدولة مقصد الاستثمار، وبوجه خاص من خلال اتفاقيات تجارية تفضيلية.
5ــ إطار تشريعى وتنظيمى واضح ومستقر وعادل، لا يجد المستثمر نفسه فيه معرضا لإجراءات أو ضغوط تعسفية، أو مضطرا للبحث عن قنوات غير رسمية أو أساليب غير مشروعة لحل ما تواجهه من مشاكل أو صعوبات.
6ــ نظام عدالة كفء وموثوق فى عدالته ونزاهته ومهنيته، يمكن من خلاله لصاحب الحق أن يقتضى حقه، وقادر على إنفاذ أحكامه.
7ــ ساحة تنافس محلية متكافئة، لا تنحاز القوانين أو المؤسسات العامة فيها إلى الجانب المحلى سواء كان من القطاع الخاص أو العام أو الحكومى.
8ــ نظام ضريبى يحقق العدالة والثبات والشفافية، دون حاجة بالضرورة لتقديم حوافز استثنائية.
9ــ آليات فعالة للحوار مع مؤسسات الدولة لتذليل الصعاب التى تواجه المستثمر، وروابط فعالة لمؤسسات الأعمال، ومدن صناعية توفر متطلبات مختلف أنواع الاستثمار، وكيانات بحثية تلبى احتياجات المنتجين من البحوث والتطوير.
10ــ مؤسسة متخصصة فى الترويج، تضع وتنفذ برنامجا شاملا ومعقدا ومتواصلا لجذب الاستثمار.
تجدر الإشارة إلى أن بعض ما يعتبر من الحوافز له تأثيرات ضارة، مثل تخفيضات الجمارك على المكونات اللازمة للصناعات التجميعية، لأنها تسمح بنشأة صناعات شبه طفيلية تتربح من فارق الرسوم الجمركية بين المكونات والمنتج النهائى مقابل قيمة مضافة محدودة، على حساب حرمان الصناعات ذات القيمة المضافة الأعلى من الموارد المالية والبشرية. وكقاعدة، فإن المستثمر حين يفاضل بين مقاصد الاستثمار المختلفة، فإنه لا يذهب حيث تتوافر الظروف الملائمة لنشاطه، وإنما حيث تتوافر أفضل تلك الظروف، وحيث تؤكد الشواهد نجاح الاستثمارات الوطنية وازدهارها.
وإذا كان جل أعباء الإصلاح المالى النقدى تقع على المواطنين والمجتمع، فإن تحسين مناخ الاستثمار ينطوى على تنازل الدولة عن جانب من حريتها المطلقة فى اتخاذ القرارات، ومن أوراق القوة التى تملكها، طالما لم يتعلق الأمر بالمصالح الوطنية العليا، لإعطاء المستثمر الثقة أنه آمن على رأسماله وحقوقه وفرصه فى الربح بل والتوسع، دون خشية حدوث ما يفاجئه، أو الاضطرار إلى دخول مواجهة مع سلطة الدولة أو منافستها أو التنازل عن مصالحه لإرضائها.
• • •
إلا أن الاستثمارات الخارجية لم تخلق كلها متساوية، كما أنها تختلط فى الحوار العام بأشكال أخرى من الأنشطة، لذا يصبح من المهم التمييز بين الاستثمارات التى تحقق أفضل إسهام فى التنمية الاقتصادية، وتوجيه جل جهود التشجيع نحوها، على حساب محدودة العائد أو التى تتسبب فى الاضطراب الاقتصادى، أو تزاحم الاستثمارات الجيدة.
بداية، هناك تفرقة بين الاستثمار الخارجى المباشر، المتمثل فى تدفق رأسمال خارجى طويل الأجل، بغرض امتلاك وتشغيل أدوات الإنتاج، وزيادة القيمة المضافة المحلية، مع الاستعداد لتحمل المخاطر التجارية المرتبطة بالاستثمار؛ وبين غيره من التدفقات المالية مثل القروض، حتى التنموية منها، ومشتروات الأجانب من الأسهم والأوراق المالية وأذون الخزانة والسندات، وما يتم من عقود مع شركات أجنبية لتنفيذ مقاولات، حيث تقل درجة المخاطرة ومعها درجة استفادة الاقتصاد.
كما أن هناك التفرقة حسب ما ينطوى عليه الاستثمار من توظيف لعوامل الإنتاج، بين المشروعات التى تحتوى على مكون ريعى كبير مثل المشروعات الاستخراجية، ومشروعات البنية الأساسية والتنمية العمرانية؛ والمشروعات الإنتاجية التى توظف مزيجا متوازنا من رأس المال والعمل والموارد الطبيعية المحلية والقدرات التنظيمية والإدارية، ذات العائد الاقتصادى الأعلى والأكثر استمرارية.
بل إنه، حتى بين الاستثمارات الإنتاجية، ينبغى التفرقة بينها حسب ما تضيفه من قيمة مضافة محلية، فالاستثمار فى صناعات التجميع وغيرها من صناعات وخدمات تعتمد على نسبة مرتفعة من المدخلات المستوردة؛ وتلك التى تتجه إلى صناعات تعتمد على نسبة مرتفعة من المدخلات أو التشغيل المحلى، أو تسهم فى تعميق الصناعة المحلية، وبالتالى زيادة التوظيف وتقوية ميزان المدفوعات وتطوير الاقتصاد والمجتمع عموما.
وأخيرا، يجب التفرقة بين الاستثمار فى الأنشطة ذات المحتوى التكنولوجى الأعلى؛ والأنشطة التقليدية التى لا تضيف إلى الاقتصاد والمجتمع معارف وقدرات جديدة.
لذا، ينبغى على السياسات العامة التعامل مع الاستثمار الخارجى بشكل انتقائى، أخذا فى الاعتبار أن الاستثمار يكون أكثر حذرا وتحفظا كلما كان أكثر فائدة، حيث تكون الصناعة العميقة المتطورة أصعب منالا، لأنها تنطوى على مخاطرة أكبر ومنحنى ربحية بطىء ومتدرج؛ بينما يسهل جلب الأنشطة الأقل عمقا وتطورا، أو الساعية إلى استخراج الموارد الطبيعية، أو التنمية العقارية ومشروعات البنية الأساسية، أكثر إقداما، لأن معادلة المخاطرة والربحية فيها أكثر إغراء.
• • •
أثبتت تجارب التنمية على مدى العقود السبعة الماضية أن نجاحها ارتبط بجعل الاستثمار الخارجى المباشر محورا رئيسيا للسياسات العامة، الاقتصادية وغير الاقتصادية، ويضعه فى مكانة تقارب مكانة قضايا الأمن القومى، وأن أهميته ــ إذا ما تدفق بالحجم والنوعية الملائمة ــ تتعدى الجانب المالى، لأنه يعد أيضا مصدرا حيويا لخلق فرص العمل، ولانتقال التكنولوجيا، ووسيلة فعالة لتطوير أساليب وقيم العمل والإدارة والنشاط الاقتصادى، والارتقاء بالقطاعات المحلية بتأثير المنافسة والتعلم، فضلا عن خلق روابط أكثر فاعلية وقوة مع شبكات الإنتاج والتوزيع والابتكار العالمية، بكل ما لذلك من فوائد للتنمية الاقتصادية، ولتطور المجتمع عموما.

أيمن زين الدين قانوني وسفير سابق
التعليقات