قام صديق بنشر جزء من أغنية شادية التى تم حذفها من فيلم «شىء من الخوف» على صفحته على الفيسبوك، ليذكرنا بهذا المقطع الذى تضمنته أسطوانة كانت قد طرحتها شركة «صوت الفن»، لكن عند نسخها على شرائط كاسيت اختفى منها تماما، ثم ظهر أخيرا على المنصات الموسيقية. لم يلق الفيلم نجاحا جماهيريا كبيرا عند عرضه لأول مرة فى فبراير 1969، إذ لم يستمر فى قاعات السينما سوى ثلاثة أسابيع. على الأغلب استعجب الناس من طريقة الصياغة الغنائية الملحمية التى وقف وراءها مبدعون كبار وعلى رأسهم عبد الرحمن الأبنودى، فمن دون شك بصمته واضحة فى تحويل رواية ثروت أباظة إلى سيرة ديكتاتور يتغنى بها الناس فى كل زمان ومكان، مستعينا بأسلوب شاعر الربابة القديم. لجأ إليه المخرج حسين كمال ليشارك فى كتابة الحوار مع السيناريست صبرى عزت، فانقلبت الدنيا وصار للعمل روح مختلفة جعلته من أفضل مائة فيلم فى تاريخ السينما المصرية.
لطالما أحببت المشهد الذى تفتح فيه شادية الهويس (وهو حاجز على مجرى مائى) فتروى الأرض العطشانة ويزغرد صوت المزمار وينطلق أهل القرية فرحين مهللين. هناك عفوية وصدق جذبانى إلى ما يحدث على الشاشة حتى قبل أن أفهم معناه لصغر سنى أو أعرف ملابسات وظروف تصويره، إذ اتضح أن هؤلاء لم يكونوا ممثلين صامتين لكن أهل قرية «قلما» بمحافظة القليوبية الذين استعان بهم المخرج وأقنعهم المنتج صلاح ذو الفقار أن يظهروا فى الفيلم مقابل أن يبنى لهم بالفعل هويسا ويحل مشكلة نقص المياه وجفاف أراضيهم، هكذا جاء فى بعض الروايات المتداولة. نظرة التحدى والحنان فى عينى شادية المكحلتين، والآهات التى تلتصق بالرأس وندندنها دون توقف بكثير من التعاطف والشجن تعبر عن توق البشر الفطرى للحرية وانحيازهم للدفاع عن الحق فى وجه الظلم والتجبر، فموسيقى بليغ حمدى جسدت ببراعة روح القرية الخائفة ثم المتمردة والثائرة فيما بعد، إذ التقط الخيط الملحمى وتلبسته هو الآخر روح شاعر الربابة.
• • •
بطلة الملحمة هنا بنت جميلة مثل الوردة "فى عينيها نار وجنة، وعندها شدة وهوادة»، هى فؤادة التى تقمصتها شادية وحفرتها فى ذاكرتنا الجمعية، لذا استدعاها الشعب أيام ثورة يناير 2011، وتحولت إلى رمز رسمه فنانو الجرافيتى على جدران المدينة، وكتبوا إلى جوارها «أنا اللى فتحت الهويس». وقفت فى وجه الطاغية عتريس (محمود مرسى)، رغم حبها له منذ الطفولة، وذلك من أجل دفع الظلم عن أبناء «الدهاشنة»، تلك القرية التى قدمها الأبنودى قائلا: «البلد اسمها الدهاشنة.. والمكان ماحدش دلِنا. يمكن ماكنتش أبدا، يمكن فى كل مكان. يمكن ماحصلش أبدا، يمكن فى كل مكان. فى الدهاشنة غل ساع الأرض غل. العارف طريقه يمشى يمشى فيه يضل. فى الدهاشنة غل مطرح ما يحل، يملى الدنيا خوف».
الفيلم يخبرنا أن الطغيان له أصل وفصل، فهو ليس نبتا شيطانيا، بل ورثه عتريس عن جده. ورغم براءة تكوينه فى البداية وتعلقه بفؤادة، إلا أنه تحول إلى وحش غادر وسيف على رقاب العباد وانتصرت منظومة الاستبداد. تم تقديمه كغيره من شخصيات الفيلم بواسطة أغنية تشرح تركيبته: «الواد كما أى عيل فعيال ناس البلد، جسمه برضك قليل زى عيال البلد. يغوى صوت السواقى لما يملا البلد، زى ولاد البلد. والقلب أخضر مزهزه لا مكر ولا حسد، زى ولاد البلد»، ثم يأتى المقطع المحذوف ليوضح ما طرأ عليه من تغيرات: «الواد أبو قلب لين صبح غير الولد. ضاع منه قلبه لأبيض وسط صريخ البلد. الحلم اللى حلمته فى الصبح بيتفرد، يصبح ذنب البلد يصبح هم البلد. والضحك اللى ضحكته أهو دمعه للبلد.. صرخة حزن ونكد، صرخة بنت وولد».
يبين الفيلم كذلك منطق الطاغية، حين يقول الجد عتريس الكبير لرفاقه: «شىء من الخوف ما يؤذيش»، فهو يعتبر أن تخاذل أهل القرية يأتى من باب الحكمة والعقل، متناسيا أن معادلة الاستبداد الناجحة تقتضى ألا يزيد الخوف إلى درجة يتحول فيها إلى غضب، أى من الأفضل أن يظل الخائف فى مرحلة التردد والرهبة التى تشل حركته وتبقيه منبطحا، ومع تراكم التضحيات والتنازلات يتم صنع الديكتاتور كما تصفه أغنية الكورال فى الفيلم: «فى الكفر طايح بسيفه، زى الرياح فى الرمال. الندل يحكم بكيفه ويشدها بالحبال».
• • •
مفردات الأبنودى محملة بتأثيرات السيرة الهلالية ومربعات ابن عروس التى سحرته منذ نعومة أظفاره فى صعيد مصر، حين كان يتنقل مع أحد أهم رواتها - عم جابر أبو حسين - بين قرى محافظة قنا حيث نشأ وحفظ الكثير عنه، إلى أن قرر جمعها بعد هزيمة يونيو 67.
استغرقت رحلة تدوينها وتوثيقها ثلاثين عاما، قابل خلالها معظم المنشدين والحكائين العرب فى أكثر من دولة، بما أن سيرة بنى هلال وحدها تزيد على المليون بيت شعرى وتسجل زحف القبائل فى منتصف القرن الحادى عشر الميلادى من هضبة نجد بعد ما جفت مياهها ليستقروا فى تونس، ثم وصولهم إلى مصر فى عهد الخليفة الفاطمى المستنصر بالله.
كتب الأبنودى ملاحم أبطال مجهولين وأفراد عاديين، غالبا ما تكون الحيلة هى وسيلتهم الرئيسية لمجابهة البؤس والظلم، لكن يجب الإشارة هنا إلى توقيت صدور الفيلم الذى جاء بعد حبس الشاعر عام 1966 بتهمة الانتماء إلى تنظيم شيوعى صغير اسمه «وحدة الشيوعيين»، ضم مجموعة من المثقفين مثل صلاح عيسى وجمال الغيطانى وصبرى حافظ وإبراهيم فتحى، وأفرج عنهم استجابة لشرط وضعه جان بول سارتر لزيارة مصر قبل أيام من النكسة. بعد تلك الأيام التى انهارت معها كل الأحلام، ألف الأبنودى أغنية «عدى النهار»، وانغمس فى جمع السيرة، وحول «شىء من الخوف» - الذى واجه مشكلات مع الرقابة - إلى ملحمة شعبية ينتصر فيها أهل القرية على الطاغية ويحترق قصره ويموت محاصرا بألسنة اللهب. ينتهى عتريس وينتهى معه زمن الخوف، لكن تبقى آثاره فى النفوس لسنوات.