الثورة تبدأ من خانة ولى الأمر - أميمة كمال - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 10:07 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الثورة تبدأ من خانة ولى الأمر

نشر فى : الأربعاء 25 ديسمبر 2013 - 8:40 ص | آخر تحديث : الأربعاء 25 ديسمبر 2013 - 8:40 ص

لا أتذكر أن سؤالا شغل بالى قبل ثورة يناير، وكسر دماغى بعدها، أكثر من السؤال حول ما إذا كان التعليم فى مصر ما زال يمثل للفقراء أملًا فى الترقى الاجتماعى، أم أن سنوات القهر الاقتصادى التى عاشتها الطبقات الفقيرة خلال الثلاثين عاما الماضية أطاحت بحلم الحراك على السلم الاجتماعى. وباتت الأسر تؤثر السلامة، ولا تقتطع من أموالها المحدودة جانبا لزوم مصاريف التعليم، على أمل ربما لن يأتى أبدا. وهو خروج أولادها من براثن الفقر التى عاش فيها أولياء أمورهم، والاندراج تحت خانة ولاد الناس.

بعد ثورة يناير قابلت مجموعة من الشباب الغاضب أمام دار القضاء العالى، والمحتجين على عدم تعيينهم فى النيابة. وكان يبدو على معظمهم أنهم من أبناء الطبقات المتواضعة اجتماعيًا، ولم يكن صعبا أن أعرف أن أغلبهم من أولاد الفلاحين القادمين توا من ريف الوجه القبلى. استبشرت خيرًا، لأننى أخيرا سأعرف الرد على السؤال هل ما زال الفقراء يطمحون، ويحلمون، وينتظرون أن يصعدوا من أول عتبه السلم، حتى ولو درجتين، ثلاثة على السلم الاجتماعى، كما كان أبناء جيلى يتباهون. قبل أن يصبح هذا السلم (الملعون) يحظر الصعود عليه، إلا لمن يملك أدوات ذلك الصعود وهى المال، والسلطة، والطبقة الاجتماعية.

رحت أحاورهم دون أن أفصح عن ذلك السؤال المحرج الذى ظل يراودنى وأردده فى سرى هل ما زالوا يعتقدون أن التعليم سيرفعهم إلى مصاف ولاد الناس التانية. وهل سيظل الفقراء يتمسكون بحلم تعليم أولادهم، أم أن الواقع فاضح بدرجة لم يعد الحلم بعده مشروعا؟

•••

أتذكر أننى حاولت أن أحصل من حكاياتهم، وذكرياتهم، وحتى سخريتهم من واقعهم على الإجابة. ولكن كان الجميع يحكى متجنبا الرد على السؤال المخفى. وأدركت أن حلمهم بعد الثورة هو ما لخبط الإجابة. فلو لم تكن الثورة، لكانوا قد استكانوا وقنعوا أن فلاحا لا يستطيع إلا أن ينجب فلاحا مثله، وقاضيا حتما سينجب قاضيا نابها كما والده. ورجل الأعمال ليس أمامه إلا أن يأتى للدنيا ببيزنس مان أغنى منه.

أتذكرهم واحدا واحدا وكيف أنهم بدأوا حديثهم وهم يسخرون من حكايات بعضهم، ويتندرون على محمود بن الغفير الذى عصفت وظيفة والده بحلمه. وعن أحمد الذى شجعه والده الفلاح الأسيوطى على استكمال الماجستير. فكان جزاؤه انكسار قلب ابنه، بعد أن تبين فى المقابلة الشخصية أن والده فلاح ما زال يعزق الأرض. ومن يومها واعتلى أحمد أحد الجبال فى دشنا وأطلق لحيته، ورفض التواصل مع زملائه. وانتهى حلمه عند هذا الحد.

وانقضاء الأحلام لديهم كان له أكثر من طريقة، فمصطفى الحاصل على ماجستير الحقوق اختار أن يعمل فى سنترال فى المنصورة، بعد أن تبين أن كلا من والده ووالدته لم يحصلا على شهادة جامعية.

تذكرت هؤلاء الشباب الآن، واستعدت شحنة الغضب التى عدت بها فى ذلك اليوم. وعاد السؤال أكثر إلحاحا بعد زفة الحكومة والنخبة السياسية لدستور 2013 الذى يعد الناس فى مادته التاسعة بأن «تلتزم الدولة بتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين». فى وقت ما زال فيه محمود لم يحصل على حقه فى موقع فى السلطة القضائية، ولعل أحمد ما زال متحصنا بجبال دشنا يعالج إحباطه، وربما قنع مصطفى بقدره كعامل فى سنترال المنصورة. ونسى حلمه الذى قضى حياته مجتهدا لتحقيقه، ودفعت أسرته ثمنا باهظا من قوتها اليومى للإسهام فى تحقيق ذلك الحلم.

•••

ولأننى لم أنجح فى الحصول على الإجابة من أفواه أصحاب القضية، الذين ربما أنهوا حلمهم، ولكن لم ييأسوا من أن أولادهم قد يستطيعون يوما أن يحققوا ما تعثرت أقدامهم هم فيه. فعدت من جديد لأبحث عن إجابة فى أوراق الباحثين الجادين الذين ربما شغلتهم نفس القضية. فوجدت أن دراسة قام بها الدكتور راجى أسعد المدير الإقليمى السابق لمجلس السكان الدولى لمنطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا ضمن دراسة موسعه للمجلس مع مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، تبين فيها أن فرص الذهاب إلى الجامعة يرتبط بقوة بثروة العائلة. وأن 9% فقط من أفقر 20% من المصريين هم من لديهم فرصة الذهاب إلى الجامعة، بينما 80% من الشريحة الاجتماعية التى تقع ضمن أغنى 20% من المصريين لديها هذه الفرصة.

وإذا كان والد الشاب حاصلا على تعليم جامعى فلديه فرصه تعادل أربعة أضعاف الفرد الذى والده أمى. وهذه الفرصة تعادل سبعة أضعاف لو كانت المقارنة بين الوالدة الحاصلة على شهادة جامعية، وبين الأم الأمية. والمقارنة تبدو أكثر قسوة عندما نتحدث عن الفتيات. ففرصة الفتاة التى تنتمى إلى الأسر «الأكثر رفاهية» فى التعليم الجامعى، وتعيش فى إحدى المحافظات الحضرية، ولديها والدان متخرجان من الجامعة، تزيد خمسين ضعفا عن فتاة تنتمى للأسر «الأكثر حرمانا» وتعيش فى الوجه القبلى، ووالداها أميان. والنتيجة الأكثر أهمية فى الدراسة هى أنه ثبت أن دور الجهد الذاتى، والقدرة الفطرية فى الالتحاق بالتعليم العالى محدودة للغاية.

•••

وكانت الدراسة كاشفة بدرجة كبيرة لكون مجانية التعليم العالى - وهى السياسة التى ترمى إلى تكافؤ الفرص فى الوصول إلى المرحلة الجامعية - قد أدت فى الواقع إلى حالة شديدة من عدم العدالة. والتفسير الدقيق لغياب العدالة، بالرغم من المجانية، هو أحوال الأسر قبل الوصول إلى المرحلة الجامعية. أى أن الظروف الاجتماعية للأسر من محدودى الدخل والتى يتسم غالبية الآباء والأمهات فيها بانخفاض مستوى التعليم، تدفع بأبناء تلك الأسر إلى التعليم الثانوى الفنى. أى تذهب بهم بعيدا عن الجامعة. وقد وضح أن ثلث من أنهوا المرحلة الإعدادية ذهبوا إلى التعليم الثانوى العام، وأن الثلثين سلكوا طريقهم إلى التعليم الفنى. واتضح أن 55% من طلاب المدارس الفنية من الطلاب الأكثر فقرا. وهو ما يعنى أن المجانية تذهب إلى الطبقات المتوسطة بأكثر مما تصل إلى الطبقات الفقيرة.

والنتيجة الأكثر قسوة هى أنه إذا نجح أحدهم وتخطى حاجز الفقر، واستطاع أن يصل إلى الجامعة، فسوف يصطدم مرة أخرى بظروفه الاجتماعية. وها هو شاب يدرس بالجامعة، ولديه والدان حاصلان على تعليم جامعى، وينتميان إلى الشريحة الاجتماعية التى تقع ضمن أغنى 20% من المصريين، ويعيش بمحافظة حضرية فإنه يتمتع بفرصة نسبتها 74% فى دخول كليات الطب والهندسة التى توصف بكليات القمة. وهذه الفرصة لا تزيد على 3% لشاب آخر والداه أميان، وحظه العاثر جعله ضمن أسرة تقع فى شريحة أفقر 20% من المصريين، وفتح عينيه على الدنيا فوجد نفسه يعيش على بقعة من ريف الصعيد.

•••

أحمد الله لأننى من جيل قضى حياته كلها وهو يسمع المصريين، أغنياءهم وفقراءهم يلقنون صغارهم عندما يخطون خطوتهم الأولى على الأرض «تاتا.... خطى العتبة». ولكن الآن لعلنى سأحضر زمنا سيلقن فيه الفقراء أولادهم الصغار «تاتا ما تخطيش العتبة».

ملعونة تلك العتبة، وملعون ذلك الزمن الذى لا يستطيع فيه التعليم أن يكون وحده مقياسًا لترقى البشر، وتكون خانة ولى الأمر هى كلمة السر.

أميمة كمال كاتبة صحفية
التعليقات