لم تكن العمليات العسكرية فى اليمن مفاجأة بذاتها.
فقد تواترت الإشارات واحدة تلو أخرى على مثل هذا التوجه
غير أن المفاجأة تبدت فى توقيتها حيث كان الظن أن القمة العربية سوف تستبق أية احتمالات تدخل عسكرى، والعكس هو الذى حدث بالضبط.
كما تبدت المفاجأة فى مستوى المشاركة التى اتسعت لعشر دول عربية وإقليمية والدعم الغربى الواسع الذى حازته العمليات فى ساعاتها الأولى، وهو ما يعنى أنها خضعت لتخطيط طويل وتنسيق مسبق انتظر اللحظة المناسبة.
لم يكن قرار الحرب مقصورا على الدول الخليجية التى تصدرت مشاهده ولا الدول العربية التى تضامنت مع أسبابه وشاركت فى عملياته.
بحسب ما هو ثابت ومعلن فإن الولايات المتحدة وفرت الدعم اللوجستى والاستخباراتى للقصف الجوى، وأشرفت عبر غرفة عمليات مشتركة على التخطيط والتنفيذ.
الأهداف ليست واحدة، فلكل طرف حساباته ومراميه، وما هو مشروع تداخل على نحو مثير مع ما هو محظور.
بالنسبة للسعودية فإنها مسألة وجودية يتعلق بها مستقبلها كدولة، فالتمدد الحوثى أطبق على خاصرتها الجنوبية، وأخذ يناوش حدودها ويخترقها من وقت لآخر، ومعنى سقوط اليمن بالكامل فى قبضة الحوثيين، وحلفائهم أن مصيرها معلق على مجهول.
وبالنسبة لدول الخليج الأخرى فإن تصدع السعودية يفضى بالضرورة إلى تصدع مماثل، وهذه مسألة حياة أو موت.
وبالنسبة لمصر فإن السؤال إجبارى بين التزامها النهائى بأمن الخليج واحتمالات انزلاقها إلى مستنقع التدخل البرى فى اليمن، بينما تخوض فى سيناء حربا ضارية مع الإرهاب وتنظيماته التكفيرية.
أى تهاون فى مستوى الالتزام بأمن الخليج يهدر فى الوقت نفسه أية مقومات لسلامة الأمن القومى المصرى من الناحيتين الاستراتيجية والاقتصادية.
وباليقين، فهناك مصلحة عليا فى تأمين مضيق باب المندب من أن يكون محلاً لنزاع مسلح يؤثر على الملاحة الدولية فى قناة السويس.
هذا كله مفهوم ومشروع غير أن اللعبة على اتساعها أكثر تعقيدا وخطورة من أن تلخصها معادلات مبسطة أو نوايا حسنة.
أى عمل عسكرى إن لم تصاحبه رؤية سياسية فهو أقرب إلى المقامرة المسلحة أو إلى مشروع تورط.
فمتى يتوقف السلاح وتبدأ السياسة؟
أخطر ما قد يحدث أن نكرر الخطأ الإيرانى فى إدارة الأزمة، فليس بوسع طرف يمنى واحد أن يهضم بمفرده البلد كله، وأن يستبعد الأطراف الأخرى بأوهام الاجتثاث.
لفترة طويلة نسبيا تهرب الحوثيون من أية استحقاقات سياسية على موائد التفاوض وراهنوا على الوقت لخلق حقائق جديدة على الأرض وتوطيد نفوذهم مما أفضى إلى غضب واسع ضم أطيافا سياسية متناقضة ومهد الأجواء لعمل عسكرى مضاد من الأطراف المضارة.
لا يمكن إعفاء إيران من مسئولية إخفاق المفاوضات التى أشرف عليها المبعوث الأممى «جمال بنعمر»، فهى التى تتولى تدريب وتسليح وتمويل القوات الحوثية، وتعقد الاتفاقيات معها كأنها «سلطة شرعية» تتحدث باسم الدولة اليمنية.
قبل العمليات العسكرية مباشرة حاول الحوثيون بدعم كامل من الوحدات العسكرية التابعة للرئيس السابق «على عبدالله صالح» حسم المعركة فى الميدان وبسط نفوذهم بالكامل على العاصمة الثانية عدن وتقويض أية شرعية منسوبة للرئيس اليمنى «عبدربه منصور هادى» ووضع الأطراف الإقليمية والدولية أمام حقائق القوة قبل أن تلتئم القمة العربية.
وبعدها لم يكن أمام إيران من بديل غير محاولة امتصاص الضربة السياسية قبل العسكرية التى تلقاها أنصارها، فالغطاء الإقليمى والدولى الواسع يردع أية نزعة للمغامرة، كما أن خبرتها فى المنطقة تدعوها إلى عدم التدخل المباشر والاعتماد بعد امتصاص الضربة على حروب العصابات.
هذا يعنى مشروع حرب قد تطول فوق التضاريس اليمنية الصعبة، وأى كلام عن ضربة نهائية أقرب إلى التوهمات، فالحوثيون من مكونات المجتمع اليمنى الرئيسية، وليسوا قوة من خارجه، وأخطر ما قد يحدث الانجراف إلى حرب أهلية مذهبية لم يعتدها طوال تاريخه الحديث أو إلى السيناريو الليبى وتمدد القاعدة فيه أو إلى انفصال جنوبه عن شماله.
العمليات العسكرية أدت بالضرورة إلى تغيير جوهرى فى موازين القوة يسمح بالعودة إلى موائد التفاوض بين الأطراف المتنازعة وفق خطة الأمم المتحدة.
تحت ضغط الحقائق الجديدة أبدت إيران مثل هذا التوجه والاتحاد الأوروبى أشار إليه.
ومن الاحتمالات التى لا يمكن استبعادها أن يكون هناك تدخل برى بإغواء الغطاء العربى والدولى الواسع، فالكسب السريع يغرى بالتورط المريع.
غير أن المسألة محفوفة بالمخاطر بالنظر إلى التعقيدات السكانية والسياسية والطبيعة الجغرافية الصعبة لمسارح القتال.
ما بين الإغواء العسكرى والمنزلق السياسى من غير المستبعد أن يحدث تدخل برى محدود يؤمن باب المندب ويحمى شرعية «هادى» فى عدن والمدن اليمنية التى تدخل فى نطاقها فى انتظار ذهاب جديد إلى التفاوض بهيبة السلاح.
فما هو المطلوب بالضبط؟
هل إنقاذ اليمن من السقوط فى حرب أهلية وطمأنة الخليج على أمنه أم الدخول فى حرب مفتوحة مع إيران والتورط فى حروب مذهبية بالملفات الأخرى بالمنطقة؟
ما هو ملح فى هذه اللحظة أن نعرف أين نقف.. وإلى أين نتجه؟
لسنا وحدنا فى الميدان، فهناك حسابات دولية وإقليمية متضاربة والقصة الكاملة لخلفيات العمليات العسكرية لم تتكشف بعد.
ما جرى حدث يمتد أثره خارج اليمن وحسابات الصراع فيه وعليه وتطور جوهرى فى تفاعلات المنطقة المشتعلة بالنيران.
من حيث التوقيت تستبق العمليات العسكرية فى اليمن الاتفاق المحتمل بين الولايات المتحدة وشركائها الغربيين مع إيران حول مشروعها النووى.
من أهداف الإدارة الأمريكية تطويع المفاوض الإيرانى لتنازلات أكثر جوهرية فى لحظات الحسم الأخيرة، وأن تخفض فى الوقت نفسه من قلق الحلفاء الخليجيين من أية ترتيبات محتملة إذا ما رفعت العقوبات عن طهران ودخلت العلاقات معها فى طور جديد.
كما أن من أهدافها تخفيض مستوى الاتهامات الجمهورية لإدارة «باراك أوباما» الديمقراطية بالضعف البالغ فى إدارة ملفات الأمن القومى الأمريكى قبل الانتخابات الرئاسية التى اقتربت مواعيدها.
الولايات المتحدة تخطط للحرب وتتفاوض فى الوقت نفسه، وما يحكمها مصالحها ولا شىء آخر.
ظهور «الكاوبوى» الأمريكى فى المشهد يقلق ويدعو إلى التحسب لما قد يحدث تاليا.
بإغواء القوة ونزعة التمدد أخطأت طهران الحساب اليمنى فى لحظة حرجة من مفاوضاتها النووية.
لا كان بوسعها هضم اليمن بتعقيداته ولا الآن بوسعها تحدى الضربة العسكرية.
غير أن هذا وضع مؤقت لا يصح الركون إليه وإلا فإنه تكرار للخطأ ذاته.
مما هو مؤقت ومنذر أن اللافت التحالف العسكرى يضم متناقضات تفتقد إلى أية أرضية سياسية شبه متماسكة.
لا رؤية واحدة للعمل العسكرى تصوغ أهدافه وأولوياته، كل شىء تقريبا محل تنازع من حقيقة الأزمة مع إيران وحدودها إلى طبيعة العلاقات مع تركيا وتعقيداتها إلى إدارة الأزمتين السورية والعراقية.
من المثير حقا أنه لا توجد توافقات حقيقية فى أى من هذه الملفات، وهذا يستدعى حوارا جادا ومصارحة بالحقائق، فلا يمكن تأسيس حلف عسكرى على أرض سياسية هشة.