ماذا فعل النازيون الألمان والفاشيون الطليان خلال غزوهم لأوروبا وأنحاء مختلفة من العالم فى أربعينيات القرن الماضى ولم يفعله الفاشيون الصهاينة فى حرب إبادتهم المفتوحة على قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان منذ 7 أكتوبر 2023 حتى الآن؟
جاء ظهور النازية الألمانية فى ثلاثينيات القرن الماضى نتيجة شعور معظم أبناء الشعب الألمانى بالمذلة جراء الاتفاقيات التى أنهت الحرب العالمية الأولى، ومع تراخى الدول الأوروبية فى التعاطى مع تنامى الوحش النازى بسرعة كبيرة، رأينا كيف غزا أوروبا وأخضع شعوبها لأبشع أنواع الاضطهاد والتعذيب والسحق بلا رحمة.
اليوم وبعد تسعة عقود بدأت الفاشية الصهيونية تُطل برأسها تحت عنوان أسماه الغرب فى كل أدبياته «حكومة اليمين المتطرف» فى «إسرائيل» كى يتجنب المقاربة الحقيقية لهوية هذا اليمين الذى بدأ يتنامى مع اغتيال رئيس الحكومة الأسبق اسحاق رابين على يد أحد عناصر اليمين الصهيونى المتطرف فى الرابع من نوفمبر عام 1995 ليعقب ذلك، وبما يُشبه لعبة «الدومينو» انهيار متسارع لليسار «الإسرائيلى» إلى حد اختفائه التام عن المسرح السياسى وبدء انطلاقة اليمين الصهيونى الفاشى بأيديولوجية دينية توراتية تتستر بما تصفه بـ«الهولوكوست» إبّان الحرب العالمية الثانية، فكان أول ما فعله هو الإلغاء الفعلى لاتفاقية أوسلو الموقعة مع منظمة التحرير الفلسطينية برعاية أمريكية عام 1993 عبر سياسة قضم الضفة الغربية وإطلاق أوسع حملة استيطان فيها وسط عمليات اعتقال طالت الآلاف بلا تمييز بين مسن وطفل وعجوز وامرأة.
وفى العام 2022، أطلق رئيس الوزراء «الإسرائيلى» بنيامين نتنياهو مشروعه لما أسماه "الإصلاح القضائي" الذى هدف إلى إخضاع المحكمة "الإسرائيلية" العليا للسلطة التنفيذية، وبالتالى مع سيطرته على الغالبية البرلمانية وضمه معظم الأحزاب اليمينية المتطرف إلى حكومته، أكملت الفاشية الصهيونية الدينية سيطرتها على كل مواقع القرار التشريعى والتنفيذى والقضائى، ناهيك بالعسكرى فى الدولة «الإسرائيلية» تماما كما فعل الزعيم النازى أدولف هتلر قبيل إطلاق حملته لاحتلال أوروبا.
المجزرة المفتوحة
جاءت الحملة العسكرية على قطاع غزة والضفة الغربية بعد «طوفان الأقصى»، فى خريف العام 2023، لتكشف مدى تجذر الفكر الفاشى الصهيونى فى المجتمع «الإسرائيلى» من خلال ما تناقلته وسائل الإعلام العالمية من مشاهد لجرائم لا توصف اقترفها الجيش «الإسرائيلى» بكل ما يملك من قدرات عسكرية وتكنولوجية، شملت قصف المستشفيات والمستوصفات والمؤسسات الإعلامية والمؤسسات الإنسانية الدولية المتعددة وسيارات الإسعاف والمسعفين ودور العبادة الإسلامية والمسيحية والمؤسسات التربوية وروضات الأطفال وممارسة أشكل مرعبة من التعذيب للمعتقلين، ذكّرنا بالتعذيب الذى مارسه الجيش الأمريكى فى سجن أبو غريب السيئ الصيت، وهذا النموذج الأخير يكاد يكون بسيطا مقارنة بما فعل الجيش «الإسرائيلى» بالمعتقلين والمعتقلات الفلسطينيين فى سجونه. أضف إلى هذه الممارسات فى فلسطين المحتلة جاءت الحملة الجوية الوحشية على لبنان من أقصى جنوبه إلى أقصى شماله وشرقه ليتكرّر المشهد نفسه الذى وثّقه الإعلام العالمى فى قطاع غزة على مدى سنة كاملة.
وليس خافيا أن هذه المجزرة المفتوحة ما كانت لتحصل وتستمر لولا الدعم السياسى غير المحدود من الغرب ولولا الدعم العسكرى الذى بلغ حد إقامة جسور جوية لتزويد «إسرائيل» بالقنابل والذخائر على أنواعها من كل من واشنطن ولندن وبرلين وغيرها من العواصم الغربية، فضلاً عن الدعم المالى المفتوح أمريكيا.
قيل عن ردة الفعل العالمية على الفاشية الصهيونية الصاعدة بأنها تعبير عن عجز، وقال آخرون لا بل عن انحياز أعمى يبلغ حد الشراكة الكاملة فى الجريمة، لكن الأمر يقتضى توغلاً أعمق فى الموضوع؛ فهذه الفاشية الصهيونية وُلدت ونمت وترعرت فى كنف هذا الغرب تماما كما حصل مع ولادة النازية الألمانية ونموها وتمددها، وقد كشفت السياسات الغربية عن نفاق لا حدود له فى التعامل مع القضايا الإنسانية الذى صنف بموجبه البشر نوعان؛ نوع يخضع لمعايير أخلاقية وآخر لا يشمله أى معيار.
وهنا يحضر مشهد الحرب فى أوكرانيا التى تقارب عامها الثالث، حيث لم يألُ الغرب جهدا فى دعم حكومة تضم فى صفوفها نازيين جددا سبق للولايات المتحدة أن أدرجت منظماتهم على لوائح الإرهاب لديها. برغم ذلك، زوّد الغرب، وما يزال، هؤلاء النازيين بكل أنواع الأسلحة والذخائر والتقنيات بعشرات وربما مئات مليارات الدولارات، ما أطال أمد الحرب حتى يومنا هذا.
«كارتيلات» السلاح
وبين دعم النازيين الجدد فى أوكرانيا والفاشية الصهيونية الصاعدة فى فلسطين المحتلة يُطرح التساؤل عمن وراء هذا الدعم غير المحدود وما هى مخاطره على السلام العالمى؟
عند التحقيق فى أى جريمة بسيطة تُرتكب، يبدأ البحث أولاً عن المستفيد من وقوع الجريمة. وفى حالتنا هذه لا يحتاج المرء إلى طول بحث ليتأكد أن المستفيد الأول هو «كارتيلات» السلاح فى واشنطن والعواصم الحليفة لها، إذ إن آلاف المليارات التى دفعت فى الحرب على أفغانستان واليمن وليبيا والعراق وسوريا وأوكرانيا وفلسطين المحتلة ولبنان هى عبارة عن شلال مال يتدفق فى خزائن هذه «الكارتيلات» من أموال دافعى الضرائب، وهذه «الكارتيلات» تحتاج دائما إلى قيادات متعطشة للدم وعلى استعداد لفعل ما لا يتصوره عقل من أجل أيديولوجياتها المتطرفة، وهل هناك أفضل من الفاشية والنازية لتحقيق هذا الأمر؟
إنّ خطابى بنيامين نتنياهو أمام الكونجرس الأمريكى والجمعية العامة للأمم المتحدة فى نيويورك يدلان على أنه يُقدّم نفسه على رأس حكومته الفاشية بوصفه خط الدفاع الأول عن ما يُسمى «العالم الحر» فى مواجهة «محور الشر»، بحسب وصفه، وللمصادفة فإن الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى يقول الأمر عينه عن نفسه، وهما بهذا المعنى مصيبان ولكن بفارق أن «العالم الحر» الذى ينطقان باسمه هو عالم حرية «كارتيلات» السلاح الذى يُدير كل هذه الحروب بلا كلل ولا ملل ولا يرف له جفن أمام هول المجازر التى يتسبب بها كل هذا السلاح وكل هذه الذخائر.
وكما تحوّل الوحش النازى إلى خطر على الإنسانية فى الحرب العالمية الثانية التى أزهقت أرواح أكثر من خمسين مليون إنسان، فإن نتنياهو وحكومته الفاشية الصهيونية (بالمناسبة ولدت الدولة العبرية فى العام 1948 من رحم الحرب العالمية الثانية و«المحرقة») تنتظره النتيجة نفسها، فهو انتقل من حمام الدم الذى نفّذه فى فلسطين المحتلة إلى حمام دم آخر فى لبنان وعينه مفتوحة على أنهار من الدماء فى كل أنحاء منطقتنا، وذلك بدعم ممن كانوا سببا فى «محرقته» وعلى حساب من كانوا تاريخيا يعاملون اليهود أحسن معاملة!
إنّ التعقيدات الجيوسياسية التى تتحكم بدينامية الحرب الدائرة حاليا فى الشرق الأوسط لا تُهدّد الأمن والاستقرار فى هذه المنطقة فقط، لا سيما مع استمرار الدعم الغربى غير المحدود لنازيى أوكرانيا، بل ثمة خطر فعلى لتحول هذه الحرب إلى حرب عالمية كبرى، فإيران ليست دولة صغيرة وقدراتها ليست محدودة وهى تقيم على تخوم حليفها الروسى الذى لا يملك ترف تركها فريسة لأمريكا ولو كان نتنياهو هو الواجهة التى تعمل خلفها واشنطن، كما أن الصين لا تملك ترف ترك دولتين مثل روسيا وإيران وحيدتين فى مواجهة أمريكا وحلف «الناتو». من هنا فإن خطر تمدد الحرب فى منطقتنا وتحولها إلى حرب عالمية ثالثة هو خطر جدى ويقف وراء هذا الخطر «كارتيلات» السلاح التى تتولى مع أخواتها «كارتيلات» النفط والمصارف وشركات التأمين تحديد هوية الرئيس الأمريكى.
ماهر أبى نادر
موقع 180