من قلب المحرقة خطايا لا تنسى - منى عباس فضل - بوابة الشروق
السبت 27 يوليه 2024 9:04 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من قلب المحرقة خطايا لا تنسى

نشر فى : الثلاثاء 28 نوفمبر 2023 - 6:35 م | آخر تحديث : الثلاثاء 28 نوفمبر 2023 - 6:35 م

من قلب المحرقة التى تطل من منحدر عميق تنبض حكايات الفلسطينيات وأطفالهن التى خلفتها مجازر الذبح وشلالات الدم على الجدران، فى المخيمات وعند المعابر والحدود وفى الشوارع العارية، كلها مساحات مفتوحة تحتضن السردية الفلسطينية مع المعاناة والصبر والثبات.
من تحت الحصار وكوابيس الاحتلال الممتد على شريط ثمانية وسبعين عاما تتجلى صور التضحيات وذكريات العذابات، تدور القصص فى طبقات متشابكة، هناك الأموات والجرحى والمعاقون والأسيرات؛ هناك الفقد المفتوح أبوابه بلا انقطاع، هناك المخيمات والمنافى والجوع والبرد؛ كلها حاضرة فى الأنين والجراحات المؤلمة التى صنعت وعيا مقاوما أشد تأثيرا وأقوى حضورا، إنه الوجه الآخر للمأساة التى تكابدها المرأة الفلسطينية مع الاحتلال وفى حرب لا تستثنيها من القتل بالقنابل والتفجير والتهجير والاضطهاد، فى واقع تغيب فيه صور القبيلة والطبقة الاجتماعية وأنماط العيش وأشياء كثيرة، حيث يبقى الانحياز قائما على المعادلة الوجودية وما يحدث فى الأرض المحتلة والإصرار على تحريرها.
• • •
تقول هيام التى تعرض منزلها لغارة جوية على حى تل الهوى، «نشكر الله على كل يوم نستيقظ فيه أحياء. نحن أكفان مؤجلة، نرتدى ملابسنا ونحن مستعدون للقاء الموت فى كل لحظة ننتظر دورنا، نحن نعيش فى اللا وجود، فى الملجأ المؤقت، وعلينا مساعدة بعضنا البعض، بناتى الثلاث يقدمن المساعدة لثلاث مسنات فى المنزل، إحداهن مصابة بمرض السكرى، والأخرى بارتفاع ضغط الدم، والأخيرة تعانى من مرض السرطان، ومع ذلك فنحن نحمل العبء النفسى لمواصلة العيش وسط هذه الأزمة والوضع غير المحتمل الذى يزداد فيه الألم بعد فقدان الأقارب والأصدقاء».
وتزفر إحدى الأمهات بعيون دامعة «كنت أتمنى من كل قلبى أن أشوف ابنى دكتور، الآن تسألينى شوو بتتمنى؟ أتمنى من كل قلبى إن متنا واستشهدنا أن لا أشوف ابنى مقطعا أشلاء»، أما عم «روان» ذات العشر سنوات فيحملها على كتفيه وهى تودع أمها وأباها وأخاها حمزة الذين استشهدوا بعد قصف الاحتلال لمنزلهم شمال غزة.. تذرف دمعا حارقا أعظم من طفولتها البريئة: الله يرحمك يا يمه، الله يرحمك أخى حمزة». هذا حال الصغيرات والأمهات الفلسطينيات اللواتى وقبل النوم يكتبن أسماء أولادهن وأرقام هوياتهن على أياديهن وأرجلهن، حتى وإن تمزقوا وتناثرت أشلاء أجسادهن تعرفوا عليهم». أى جنون يسكن عالمنا؟ أى خطايا لا تنسى ولا تغتفر؟
لقد فرض الحصار الإسرائيلى الأمريكى الغربى على الحياة الفلسطينية عامة وعلى النساء خاصة وضعا لا إنسانيا ولا أخلاقيا مفزعا، والفلسطينيات يتحملن عبئا ثقيلا منه لحماية أسرهن، وبما يحيط بهن من كوابيس وشعور بالخوف والألم وعذابات مستمرة من حالات الفقد الذى يهمين على حياتهن حيث تحاصرهن فكرة البقاء على قيد الحياة مع الخسائر الموجعة، فإما أن تغادر أو يتعرض منزلك إلى الغارات الجوية الإسرائيلية وقذائفها فتدفن تحت أنقاض منزلك وتغادر الحياة ويتحول كل شىء إلى ركام، لا يمكنك التنقل، ولا الجلوس وكل الاحتياجات الأساسية لا يمكن الحصول عليها وإن وجدت فهى بتقتير شديد، لا حياة خاصة مترفة لهن فى ملاجئ غزة التى تعانى من الاكتظاظ والنقص الشديد للغذاء والكهرباء والماء، والغارات الجوية الإسرائيلية مستمرة تدمر الإحياء والمخيمات بأكملها وعلى رءوس أهلها.
الحديث عن واقع المرأة الفلسطينية ومعاناتها مع العنف وجرائم الاحتلال وما يمارسه من قتل وتهجير ليس ترفا فكريا، ليس حملة سنوية حقوقية عمرها ستة عشر يوما والسلام، وليس شعارات تقودها هيئة الأمم المتحدة للمرأة، التى تقر «بأن الوضع الإنسانى فى غزة التى تخضع للحصار؛ مأسويا قبل مجازر غزة وإنه تفاقم الآن بشدة، وفرض ضغوطا على النساء والفتيات خصوصا مع المطالبات الإسرائيلية بترحيل (تهجير) نحو 1.1 مليون فلسطينى، وهى التى تشدد على ضرورة احترام القانون الدولى والإنسانى، وقانون حقوق الإنسان والالتزام بهما»، هل يؤثر فيكم اليوم خطاب هذه الهيئة وغيرها؟
• • •
فى حقيقة الأمر نستقبل احتفالات العالم بحملة مناهضة العنف ضد المرأة هذا العام فى وضع إشكالى واستفزازى بما يحمله هذا الشعار من ثقل تراكم فى وعينا الجمعى عبر أعوام؛ ثمة معضلة تواجهها النخب المدافعة عن حقوق الطفولة والنساء، لاسيما بعد سقوط الأقنعة وانكشاف البشاعة والخزى فى ازدواجية المعايير بالانحياز إلى إسرائيل وهى تقصف المستشفيات وتقتل الفلسطينيين المدنيين والأطفال الرضع فى حاضناتهم من منظور عرقى ودينى.
نعم لقد حان وقت المراجعة للقانون الدولى للمنظومة الفكرية والأممية التى تتصدر أجندات الهيئات الأممية وبما تحمله مضامينها من مفاهيم الحق والعدالة، مراجعة تضع المسافة بيننا وبينها وهى التى انزلقت مع الهراء والكذب الإسرائيلى الفاشى، لنتأمل؛ فهى ــ أى الهيئات ــ تقف مع الاعتداءات الهمجية الصهيونية على الفلسطينيين وضد «وقف الحرب والقصف» من منطلق «الدفاع عن النفس» كما تعتبر دعوات إيقاف الفصل العنصرى ومقاومة الاحتلال معاداة لليهودية، لنتذكر أن أغلبية شهداء مجازر الإبادة الجماعية فى غزة هم من النساء والأطفال؛ وهناك مئات الأسيرات من النساء والأسرى من الأطفال منذ ما قبل 7 أكتوبر؛ فعن أى عنف وانتهاك حقوق وعدالة يتحدثون؟
بعد غزة لا حاجة لنا لنردد لغو شعارات تم هندستها فى المنظومة الفكرية والقانونية الإنسانية لعقود وهى التى طالما دافعنا عنها باستماتة؛ وفى حقيقتها لم تكن إنسانية ولا قانونية فى تعاطيها مع المدنيين الأبرياء والنساء والأطفال الفلسطينيين، حين أبيدت أرواحهم على مقصلة قصف الطائرات الإسرائيلية وقنابلها، لم يكن للمرأة الفلسطينية وأطفالها وقضيتها من موقع عند مقاربة جريمة الإبادة الجماعية وما أنجز واقعا والتزاما بمفاهيم هذه المنظومة ورعاياها.
بعد غزة نحن لا نملك ترف ملامسة شعارات «مناهضة العنف» التى تطلق فى الحملات الترويجية على منصات التواصل الاجتماعى وتتصدرها أنشطة هيئات الأمم المتحدة ومؤسسات المجتمع المدنى وهناك وتبعا للمديرة التنفيذية لهيئة الأمم المتحدة للمرأة أكثر من «14 ألف مدنى شهيد 67% منهم كانوا نساء وأطفال، وأن امرأتين تستشهدان كل ساعة و7 نساء كل ساعتين فى قطاع غزة»، لا خيار لنا؛ لا نملك هذا الترف، غزة وضعتنا على محك الاختبار والاختيار، والمسألة كما يراها المفكر المغربى محمد المعزوز «ليست مسألة احتلال أرض فقط ولا مسألة سياسية، وإنما هى سردية الإنسان الفلسطينى المضطهد منذ 48؛ لقد اهتزت الثوابت الأخلاقية للوجود الإنسانى فلم يعد مسعى إبادة الأطفال والنساء إبادة للهوية أو الجنسية فقط، وإنما هو إبادة لماهية موصولة بالجنس البشرى، رتبتها «موقعها» أكثر من العنف باعتبار إن العنف ينتهى دائما إلى لحظة خمود بأثر كابح من كوابح ثابت أخلاقى ملزم».
الخلاصة إن هذه الإشكالية الفكرية لم تناقش بعد وبجدية فى أوساط المثقفين والمفكرين والناشطين والناشطات العرب فى شتى المجالات الحقوقية، ربما لصدمة مما يحدث أو قصور وعى أو انتهازية أو يقين، بيد إن سردية حقوق الإنسان والقوانين الدولية والمواثيق الإنسانية وباعتراف الأغلبية قد انزلقت وسقطت وفقدت وجاهتها بما شكلته من استفزاز فكرى وثقافى وأخلاقى فى تجاوزها لمعاناة الإنسان الفلسطينى مع الإبادة الجماعية والتطهير العرقى الذى يمارسه الاحتلال الإسرائيلى؛ وما تعيشه النساء والأطفال مع فصول هذه الإبادة الذى ينفذ بمراحل منذ الاحتلال الإسرائيلى وحتى اللحظة.

منى عباس فضل كاتبة وباحثة من البحرين
التعليقات