طلال سلمان.. هل ضيع عمره في الأوهام؟ - طارق فريد زيدان - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 6:00 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

طلال سلمان.. هل ضيع عمره في الأوهام؟

نشر فى : الثلاثاء 29 أغسطس 2023 - 7:15 م | آخر تحديث : الثلاثاء 29 أغسطس 2023 - 7:15 م

انتماء الأستاذ طلال سلمان للعروبة كان ثابتا بالرغم من كل التحديات. وما أكثر التحديات التى تعرض لها فى حياته. كأنه اتخذ من مقولة الفيلسوف الإنجليزى أرنولد تويمبى «الحياة تحد.. واستجابة للتحدى» مذهبا له.
اختار «أبو أحمد» أن تزين مدخل بناية جريدة «السفير» فى شارع منيمنة فى الحمراء (رأس بيروت) خريطة نحاسية للوطن العربى. لم يختر أعمالا لفنانين تشكيليين لبنانيين وعرب كبار شاركوا فى صياغة مسيرة «السفير» وما أكثرها فى مكاتب الجريدة وطوابقها وأروقتها. كانت الخريطة ــ وما زالت على الأرجح ــ معلقة ضمن كادر خشبى على حائط خلف فريق الاستعلامات والاستقبال. سألت الأستاذ طلال يوما أن هناك دولة عربية غير موجودة فى الخريطة فهل السبب هو صغر مساحتها؟ غرق فى الضحك متذكرا كيف صنعت هذه الخريطة أزمة دبلوماسية عند زيارة أحد سفراء إيران فى لبنان لجريدة «السفير». فقد أبدى السفير الإيرانى اعتراضه على ضم هذه الخريطة إقليم الأحواز إلى العراق، رافضا دخول مبنى الجريدة من دون تغييرها.. ولم تتغير!
هكذا كانت جريدة «السفير» تواجه التحديات وتستجيب لها. من موقعها فى مدينة بيروت إلى خريطة العالم العربى فى مدخلها إلى أحرف صفحاتها، من المهد وحتى اللحد هى فى تكوينها فكرة قائمة على التحدى.. والأستاذ طلال أدارها كقبطان سفينة فى بحر شرق أوسطى هائج لا يهدأ.
• • •
تعرفت على الأستاذ طلال من خارج «السفير». و«السفير» هى النادى الكبير الذى انتمت إليه مجموعة عريضة من الصحفيين والكتاب والأدباء. ما زلت أتذكر حسرته عندما تناولت كتابات صحفى ما يصنف مفكرا كبيرا اليوم فى الخليج العربى. أشار إلى أن هذا «الكبير» نفسيته صغيرة جدا، ليكمل أن للقلم شخصية لابد وأن تنكشف يوما ما. فعلا؛ انكشف «الصحفى الكبير».. وأصبح بحجم نفسيته الصغيرة جدا.
• • •
منذ لقائى الأول بالأستاذ طلال أخذنى بعطف أبوى كبير. أتذكر كيف كان يصافحنى قابضا بيده اليمنى السمراء على يدى اليمنى ويشد بيده على ساعدى الأيسر بينما عينه تتسع وتكبر مع اتساع ابتسامته. تعمد أن يمازحنى بصوت عال حتى يسمعه الحاضرون «هذا صديقى السعودى». لقاءات عدة توالت فى بيروت والقاهرة. وفى كل جلسة كان يردد مقولته هذه. لتتسع ابتسامته مع لمعان عينيه فى كل مرة. يحب أبو أحمد النكتة الذكية. ولأنه يمتلك حسا فكاهيا أعتقد أنه كان يحب إظهار الصورة السلبية المتداولة عن علاقة «السفير» بعالم القناصل والسفراء!
• • •
فى بلد الاستقطاب الطائفى والسياسى بامتياز، لم تنج «السفير» من نمطية المواقف المسبقة المضللة. لكن الأستاذ طلال كان يعرف ذلك جيدا. وقد وظف هذه النمطية فى صياغة معادلة تفصل بينه وبين الجريدة. من ضمنها العلاقة مع السعودية. ومن يعرف أبو أحمد جيدا يدرك مقدرته البارعة فى إدارة العلاقات المركبة والمعقدة سواء داخل المؤسسة نفسها التى يديرها أو أنماط علاقاتها الخارجية..
• • •
بحكم أن العلاقة بين السعودية وجريدة «السفير» ظلت أسيرة المحاور الإقليمية المتقلبة فى لبنان والعالم العربى، ثمة صورة ارتسمت فى أذهان الناس أن هذه العلاقة تنسحب على ناشر «السفير» ورئيس تحريرها الأستاذ طلال سلمان. فلطالما كانت العلاقة بين الأستاذ طلال والمملكة العربية السعودية سرا من «أسرار الآلهة»، حتى جاء اليوم الذى باح فيه أبو أحمد ببعض خبايا هذه العلاقة. كان ذلك فى العام ٢٠١٨ بعد اقفال الجريدة. صعدت إلى الطابق السادس حيث استمر صالون الأستاذ طلال فى الانعقاد. بادرته سائلا عن علاقته بالسعودية، وسألته مستفسرا كيف لرئيس تحرير صحيفة عربية عاصرت أحداثا إقليمية وعالمية كبيرة أن تكون هناك علاقة رجراجة بينها وبين السعودية؟
ابتسم طلال سلمان كعادته واستل الكلام بكل هدوء ومن دون أدنى انفعال. بدأ حديثه من باب نشأة الصحافة اللبنانية. وكيف أن السياسة فى لبنان لها الأثر الكبير على شئون الحياة على رأسها الصحافة، قائلا إن الرئيس المصرى جمال عبدالناصر هو من أسس معظم الصحف اللبنانية، معددا منها «الكفاح العربى» و«الأنوار» و«المحرر» و«الأسبوع العربى»، مذكرا أنه كانت هناك طائرة مصرية تقلع ظهر كل يوم محملة بالصحف اللبنانية إلى القاهرة، ليستدرك كأنه يسترجع معلومة ما. ساد صمت لثوان. أردت مقاطعته بالرجوع إلى إشكالية علاقته بالسعودية، غير أن سرعة بديهة الأستاذ طلال كشفت مخططى فانتقل بسلاسة إلى صلب الحديث. إلى العام ١٩٧٥م، إلى يوم العزاء بالملك السعودى فيصل بن عبدالعزيز الذى اغتيل فى مكتبه. كانت جريدة «السفير» قد ولدت قبلها بأشهر. ناهيك عن اشتعال صراعات عربية ــ عربية أخذت تنعكس سلبا على لبنان. ذهبت مع وفد من نقابة الصحافة اللبنانية إلى الرياض. وجدت نفسى ــ والكلام للأستاذ طلال ــ جالسا فى مجلس العزاء بين الملك سلمان بن عبدالعزيز (أمير الرياض حينها) والأمير طلال بن عبدالعزيز. ثم دخل الأستاذ غسان توينى واقفا أمامهم مستنفرا، وهو يقول لأبناء الملك عبدالعزيز «أنتم لا تحبون إلا من يذكركم بسوء)» فى إشارة إلى الصورة النمطية لجريدة «السفير». جاء الجواب من الأمير سلمان مباشرة مشيرا بسبابته إلى طلال سلمان قائلا «هذا طلال» ثم أشار إلى نفسه «وهذا أنا سلمان».
قررت وزارة الإعلام السعودية دعوة رئيس تحرير «السفير» لزيارة المملكة غداة أحداث الحرم المكى فى العام ١٩٧٩م أو ما تعرف بـ«أحداث جهيمان». يومها التقى طلال سلمان مجموعة من الأمراء والمسئولين السعوديين. قابل ولى العهد آنذاك الأمير فهد بن عبدالعزيز. امتد لقاءهما لأكثر من أربع ساعات، واصفا الملك فهد بأنه كان سريع البديهة، وأن المستمع إليه عليه الإنصات بعمق. ثم أشار الملك فهد حين انتهاء الحوار بأنه يريد تقديم هدية له. فبادر الأستاذ طلال مجيبا بأنه يريد عباءة الأمير (البشت). خلعها الأمير فهد فورا وقدمها هدية لرئيس تحرير «السفير». ثوان معدودة قام بعدها طلال بإرجاعها إلى الأمير شاكرا له رمزية الهدية والعباءة.
فى تلك الزيارة ذاتها، زار طلال سلمان الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض حينها. يتذكر أبو أحمد أن اللقاء الذى جرى فى الرياض كان يتميز بتلك البساتين وأشجار النخيل التى أحاطت بهم من كل ناحية. فى خضم الحوار استفاض الأمير سلمان قائلا «يا طلال نحن عرب. نحن أبناء هذه الأرض وهذه الصحراء وهذا النخيل. نحن آل سعود لسنا مثل الملك فاروق ولسنا من الألبان (ألبانيا)». فهم الأستاذ طلال مغزى كلام الأمير سلمان بأن العلاقة بين الرياض والعروبة لا تحتكرها قضية أو زعامة أو حتى صحيفة. هى علاقة تجذر وانتماء.
• • •
لم تقتصر علاقة الأستاذ طلال على أحد بعينه فى الرياض. بل كان له فيها أصدقاء بعدد الأخصام. وعلى سيرة احتكار العلاقات كان يحلو للرئيس الشهيد رفيق الحريرى تضخيم تمثيله المملكة فى لبنان وتوظيفها فى عمله السياسى. لم يكن ذلك خافيا على أبو أحمد. بل نسج علاقة مركبة مع الرياض والحريرى الأب. حيث لا يمكن الحديث عن علاقة الأستاذ طلال بالرياض من دون الحديث عن علاقته بالرئيس رفيق الحريرى. فكلا الرجلين جاءا من خارج البرجوازية البيروتية التى كانت تملأ الدنيا وتشغل الناس. الأول من البقاع والثانى من عاصمة الجنوب. جمعهما طموح جارف لترك بصمتهما فى تاريخ بيروت ولبنان، وهما بالفعل تركا تلك البصمة، بدليل الفراغ الذى تركه الرجلان فى عاصمة السياسة والصحافة والثقافة والأدب..
• • •
دفع الأستاذ طلال ثمن مواقف «السفير» مرارا. تعرضت الجريدة للترهيب والترغيب أكثر من مرة وبينها عبوة ناسفة فى العام ١٩٨٠ استهدفت مطبعتها ونجا منها صاحب محل خياطة من جيران «السفير». ذهب الجار الأرمنى إلى طلال سلمان شاكيا «انت استاذ بتكتب وفى حدا بيقرا وما بيعجبو. يلى ما بيعجبو بدو يقتلك. بيحط عبوة. أنت ما بيصير شى وأنا كنت رح موت. شوف استاذ أنا قررت اترك البلد إلك وإلو».. لم تثن النمطية ولا العبوات «السفير» يوما من استمرار الصدور. ولم يتوقف الأستاذ طلال فى إدارة التحديات المتتالية. لكن قرار اقفال الجريدة فى مطلع العام 2017 كان ويظل غير مفهوم لكثيرين من قراء «السفير» فى لبنان والعالم العربى إلى يومنا هذا.
فى هذا السياق، أستعير بيت شعر من قصيدة الشاعر السعودى غازى القصيبى الذى قال «تأبى الرجولة أن تدنس سيفها». قاوم الأستاذ طلال محاولات عدة لتدنيس جريدة «السفير». مرة بالرصاص فى محاولة اغتيال فاشلة. ومرة بسلاح المال حين قلت الحيلة. ومرة بالتكنولوجيا حين ادخل الحاسوب فى عالم الصحافة اللبنانية. وآخرها الضربة القاضية عندما رحل رجال السياسة و«بقى صبية يديرون البلد» على حد وصفه.
• • •
فى يوم اقفال «السفير» شعر محبو هذه الجريدة وكأنهم يرددون قول الشاعر المصرى على محمود طه الذى قال «أنا من ضيع فى الأوهام عمره». أقول للذين قرأوا الفاتحة على «السفير» أن الأستاذ طلال سلمان لم يكن واهما حين أطلق جريدة «السفير». لكنه كان حالما حين صرف عمره كله فى مهنة الصحافة، ليكتشف متأخرا أنه أضاع الكثير منه فى بلاط صاحبة الجلالة.
• • •
يظل قرار اقفال جريدة «السفير» علامة فارقة فى مسيرة الأستاذ طلال سلمان. لا أدعى معرفة السبب الحقيقى لكن ما أدعى معرفته بشهادة الكثيرين أن جريدة «السفير» أنقذت شبابا لبنانيا من الانخراط فى الحرب الأهلية المدمرة. ففتحت لهم صفحاتها وقدمت لهم سلاح القلم. يكفى أن هناك من صنع أرشيفا لتاريخ لبنان الذى لا يزال مختلفا عليه. رحم الله الأستاذ طلال. وأتمنى على عائلته أن يتحول أرشيف «السفير» إلى مؤسسة وطنية، يستطيع الجيل الجديد أن يستقى تاريخه منها من دون كبير عناء وتدقيق.
• • •
فى الختام، أقول إن بيروت قبل رحيل طلال سلمان شىء وبعده شىء آخر. للأسف تضيق الهوامش وينسحب نسمة باحثا عن سيرة جديدة غير سيرة الحب. الحب الفياض لبيروت عاصمة العواصم.

طارق فريد زيدان كاتب سعودي
التعليقات