معنى المثقف.. فى زمن الانهيارات - صبرى حافظ - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 11:27 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

معنى المثقف.. فى زمن الانهيارات

نشر فى : الجمعة 29 أكتوبر 2010 - 10:34 ص | آخر تحديث : الجمعة 29 أكتوبر 2010 - 10:34 ص

 تعج الساحة الثقافية المصرية هذه الأيام بجدل مستمر حول ماهية المثقفين، ودورهم، ومن الذى له الحق فى أن يمثلهم، وهو جدل بدأ حينما نزع السيد وزرير الثقافة صفة المثقفين عن الذين وقعوا على بيان يطالب بتنحيته، بعد تنامى الكوارث فى وزارته بلا توقف، منذ حريق مسرح بنى سويف، وتعاقب مسلسلات الفساد والقبض على أكثر من واحد من مساعديه المقربين، وحتى سرقة لوحة فان جوخ الشهيرة والتى لا تقدر قيمة امتلاك مصر الرمزية لها بأى ثمن، بالرغم من سفاهات محسن شعلان ووصفه لها بأنها «زبالة».

ثم تنامى هذا الجدل بعدما أخذ السيد الوزير حفنة من الذين اعتبرهم مثقفين ــ حسب تعريفه الطريف للمثقف ــ للقاء الرئيس، ونشرت صورتهم التذكارية مع مدائحهم الغريبة للقاء فى الصحف الرسمية. ولا يزال الجدل دائرا حول مؤتمر المثقفين الذى يزمع المجلس الأعلى للثقافة تنظيمه، والمؤتمر المضاد للمثقفين المستقلين الذى ينظم فى مواجهته، وفى محاولة لنزع الشرعية عنه.

والواقع أن هذا الجدل يتطلب منا أن نعود من جديد إلى البديهيات، وأن نتعرف على معنى المثقف وطبيعة ولاءاته: من هو المثقف؟ هل هو الإنسان النخبوى الذى يراكم المعرفة، ويوظفها فى سبيل الارتقاء بالفن والثقافة، ويتعبد فى محرابها فى برجه العاجى؟ لا يأبه بشئون العامة والدهماء، ويعرض عن صراعات الساسة وخلافاتهم، ولا يكتب إلا للخاصة أو خاصة الخاصة.

أم هو صاحب الوعى النقدى الذى يغنى ضمير أمته، ويبلور معاييرها، ويرهف وعيها بأولوياتها الاجتماعية والسياسية والوطنية، وينحاز لتلك الأولويات، ويدافع عن حق جماهير شعبه فى العدل والحرية، حتى لو اضطر إلى أن يدفع من قوته وحريته ثمن هذا الانحياز؟ أم هو الإنسان العملى الذى يوظف مهاراته وذرابة لسانه فى خدمة مؤسسة السلطة، لإحكام قبضتها على الحكم، وتمكينها من إخراس كل صوت مناوئ لها، مهما بلغت من فساد، دون أى تمييز بين سلطة وطنية ديمقراطية مشروعة (كما كان الحال مع طه حسين)، وسلطة استبدادية فاقدة لأى مصداقية (كما هو الحال مع جابر عصفور ومن يدعون بأنهم تلاميذ طه حسين الذين تجاوزوه)، ويتعلل فى ذلك بالطبع بأنه يقوم بمشروع ثقافى تنويرى، يستخدم فيها السلطة دون أن تستخدمه، فيزداد بذلك نفوذه وتتألق وجاهته، وتمتلئ جيوبه بعائد ممارساته الثقافية/ الأمنية الوفير؟ سواء وعى هذا المثقف أم لم يع بأن السلطة هى التى تستخدمه، وأنه لا يستطيع إلا أن يخدمها، ويتحول إلى ترس تافه فى عجلتها العملاقة.

كل سؤال من تلك الأسئلة يناظر تصورا للمثقف، وبالتالى تعريفا له، يختلف كثيرا عن التصور الآخر، بل ويتناقض معه. وإزاء هذه التصورات المتناقضة كان من الضرورى العودة للبديهيات من جديد. فنحن نعيش فى عصر أكثر جهنمية من العصور السابقة، من حيث قدرته على التمويه على الهوان والفساد والانهيارات.

عصر وسائط الإعلام العملاقة والفضائيات، والمفاهيم الرنانة التى أصبح الكثير منها بما فى ذلك مفاهيم كبيرة مثل المعارضة، وحقوق الإنسان، والديمقراطية غير المسبوقة التى يتمتع بها المواطنون، كالعملة الماسحة، التى ضاع ما عليها من كتابة وصارت فارغة من المعنى جوفاء.

حيث أصبح الاحتواء عملية مراوغة وبالغة التعقيد، لايشمل الأنصار وحدهم، وإنما ألوان من الطيف المعارض أيضا. وأصبح تعدد الخطابات هو أداة المؤسسة المسيطرة لفرض هيمنتها، بدلا من الاستقطاب القديم بين خطابين متعارضين، أحدهما حكومى والآخر معارض. فقد تعلم النظام المصرى دروس مسيرة طويلة من المواجهة بين المثقف والسلطة. بدأت منذ بداية التحديث.

فما لا يذكره الكثيرون أن محمد على بعد أن تخلص من مناوئيه السياسيين من المماليك فى مذبحة القلعة الشهيرة، تخلص أيضا من مناوئيه المحتملين من المثقفين فى مذبحة للمثقفين لا تقل شراسة عن مذبحة القلعة، راح ضحيتها الكثيرون ممن أتوا به إلى السلطة، وشكلوا بذلك قوة ثقافية محتملو، مستقلة وموازية، من أمثال عمر مكرم وعبدالله الشرقاوى وأحمد المحروقى وحسين السيوطى وابن شمعة وحجاج الخصرى.

فقد كان هؤلاء المثقفون الذين فرضوا على الباب العالى اختيار محمد على دون غيره، هم أول ضحايا وهم إمكانية أن يستخدم المثقف السلطة لتحقيق مشروعه. بل الصحيح أن محمد على استخدمهم لتحقيق مشروعه هو، وما إن وجد أنهم يتوهمون أن يكونوا قوة مستقلة عنه حتى عصف بهم بالنفى والإخراس وتحديد الإقامة.

منذ ذلك التاريخ الطويل ومسيرة التوتر والصراع بين المثقف والسلطة تتسم بتاريخ دام ودموى، منذ عصف خليفة محمد على برفاعة الطهطاوى ونفاه للسودان، وأطاح فيه الانجليز بزعماء الثورة العرابية وشاعرها الأكبر محمود سامى البارودى ونفوهم إلى سرنديب، وتشرد عبدالله النديم فى المنافى الداخلية أعواما، وحتى اضطرار الأفغانى ومحمد عبده إلى الهجرة إلى المنافى التركية منها والباريسية، وصولا إلى أزمة المثقفين فى زمن عبدالناصر، وطرح أهل الثقة فى مقابل أهل الخبرة والمعرفة. ثم وضع العقل اليسارى المصرى كله وراء القضبان لسنوات، ثم بعدها العقل الدينى اليمينى لسنوات أخرى.

كانت هذه هى آخر المواجهات المباشرة، بدأت بعدها الألعاب الجهنمية المراوغة منذ عصر السادات، مع لعبة محمد عثمان إسماعيل القذرة التى أطاحت بالكثير من المثقفين فى مطلع السبعينيات، وخلقت المناخ الطارد للعقل المصرى كله لسنوات، وصولا إلى اعتقالات سبتمبر الشهيرة، ثم ثلاثين عاما من قانون الطوارئ والاحتواء، وإدخال المثقفين إلى حظيرة فاروق حسنى، وألاعيب سياسة العصا والجزرة، بما فى ذلك محاكمات الصحفيين وحتى ضرب المدون خالد سعيد حتى الموت.

من هذا التاريخ الطويل تعلمت المؤسسة دروسا بليغة فى مجال التعامل مع المثقفين. وبلغت فى هذا المجال درجة من الخبرة الجهنمية تتبدى تجلياتها فى الخلط والتخليط الذى يسود الحقل الثقافى المعاصر. فقد نجحت المؤسسة المهيمنة من خلال هوامش الحرية المضبوطة بعصا مايسترو أمريكى بارع فى احتواء نقيضها، أو ما يبدو أنه نقيضها، وجعله جزءا عضويا منها، وعنصرا فاعلا فى عملية تكريس سلطتها، من اجل إجهاض النقيض الحقيقى.

فقد أصبح العالم الراهن والمعولم مليئا، كما لم يكن من قبل، بالخبراء والمهنيين والمستشارين الذين يزودون السلطة بما تريد، بما فى ذلك الخبرة الثقافية، لقاء مقابل مجز. يتسم كثيرا بالسفه فى بلد مصنف دوليا على أنه من البلاد الفقيرة، حيث يعيش نصف سكانه على الأقل تحت خط الفقر. فقد علمت أثناء إبداء دهشتى من راتب إبراهيم عيسى الضخم (75 ألف جنيه فى الشهر، وهو ما يعادل الراتب السنوى لثلاثة أساتذة بالجامعة) أن راتب أمثاله من رؤساء تحرير الصحف المسماة بالقومية قد يتجاوز بمكافآته وعلاواته عشرة أضعاف راتبه ذاك.

إذن فالاحتواء المؤسسى عبر الرواتب الضخمة بسفه لا يشمل مؤسسة الموالاة وحدها، وإنما مؤسسة المعارضة أيضا، حيث أصبحت تلك المعارضة المدجنة والمسيطر عليه ببراعة، أحد العناصر الأساسية فى تقوية مؤسسة السلطة وتكريس هيمنتها. بصورة أصبح معها من العسير التمييز بين حراس الكلمة، وكلاب الحراسة. والواقع أننى دهشت حقا، وهى كلمة مخففة لما أصبت به من رعب على مصر قبل أى شىء آخر، حينما سمعت عن الأرقام الفلكية التى يحصل عليها بعض «المثقفين»، لأنها تكشف عن جهنمية آليات الاحتواء وإدخال المثقفين للحظيرة، وتحويلهم إلى كلاب للحراسة بعد أن كانوا حراسا للقيم الأخلاقية والفكرية والوطنية.

أقول ذعرت من هذه الأرقام لأنها تكشف عن أن آليات الاحتواء العملاقة ضاعفت من صعوبة مقاومتها، وأحالت من يستطيع رفضها بحق إلى بطل أو شهيد. يموت وحيدا ويدفن فى مقابر الصدقة بعد أن شيطنه زمن الانهيارات، وبعد إصرار المؤسسة على أن توجه له صفعاتها وهو على فراش الموت كما جرى مع فاروق عبدالقادر. بينما كان المفروض أن تكون مقاومة مثل ذلك الفساد الرهيب أمرا عاديا بل وبديهيا.

ووسط هذه الغابة من الخلط والتخليط أصبح، من العسير على القارئ أن يميز بين خطاب يستهدف تكريس الهوان والتبعية، وآخر يراوغ فى استخدام شقشقات لفظية مضادة لهما، ولكنها تسعى فى الوقت نفسه لتيئيس القارئ من أى أمل فى نفض أوزارهما عنه، وعن مصر نفسها.

وصولا إلى الغاية نفسها وهى أنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان. ذلك لأن الرحلة التى قطعها المثقف من البرج العاجى إلى «الحظيرة» وهى التعبير الأثير لدى وزير الثقافة، لم تغير ولاءات المثقف فحسب، ولكنها غيرت لغته وقاموسه، وأجهزت على نصاعة اللغة وبساطتها والتى كانت رديفا لنصاعة الموقف ووضوحه.

لكن أى محاولة لتعريف من هو المثقف أو للمفاضلة بين التعريفات العديدة المطروحة حوله فى الحقل الثقافى والفكرى لابد أن تأخذ فى اعتبارها السياق الذى يتم فيه هذا التعريف. فكيف يمكننا أن نعرف معنى المثقف، وأن نميز بين المثقف الحقيقى والمثقف التابع فى زمن الانهيارات العربى؟ هذا ما سنتعرف عليه فى الأسبوع القادم.

صبرى حافظ ناقد أدبي مصري مرموق، وأستاذ الأدب الحديث والمقارن بجامعة لندن. درّس في كبريات الجامعات الغربية. وله العديد من الكتب والأبحاث بالعربية والانجليزية، فاز أحدث كتبه بالانجليزية (السعي لصياغة الهويات) بجائزة (اختيار) الأمريكية لأهم الدراسات الأكاديمية لعام 2009.
التعليقات