الثقافة.. وأخذ زمام المبادأة - صبرى حافظ - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 5:45 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الثقافة.. وأخذ زمام المبادأة

نشر فى : الجمعة 9 مارس 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الجمعة 9 مارس 2012 - 8:00 ص

لا يقتصر تعثر الثقافة بعد الثورة على إخفاقات وزراء الثقافة الفاشلين من الذين تتابعوا عليها منذ اندلاع الثورة وحتى الآن. فلم يجرؤ أى منهم على أخذ زمام المبادأة الثقافى للتعبير عن الضمير الجمعى لشعب أبدع واحدة من أعظم الثورات فى تاريخ البشرية. إذ استسلم كل منهم بحكم العادة التى دجنت المثقف ودربته على التبعية للمؤسسة السياسية، لنفس الممارسات التى كرستها عقود أربعة من الانحطاط كانت نغمة القرار الأساسية فيها هى التبعية. فإذا ما حاولنا التعرف على جوهر توجه النظام المصرى، منذ أعلن السادات عقب توليه السلطة أن 99% من أوراق اللعبة فى يد أمريكا، وحتى سقوط مبارك المخلوع، سنجد أننا يمكن تلخيصه فى كلمة واحدة التبعية. وإذا كان هذا النظام قد بدأ بالتبعية المراوغة، فإن استمراءه لها على الصُعُد السياسية والاقتصادية والحضارية كلها، هو الذى أدى به إلى حضيض الهوان، والاغتراب الكامل عن شعبه، والتحول إلى ذخر استراتيجى للعدو الصهيونى، وإلى الحليف الرئيسى لمخطط راعيه الأمريكى فى المنطقة. وكلما ساخت أقدام النظام فى أوحال التبعية والإذعان والهوان، كلما شعر بالعزلة عن شعبه، وبالخوف من أى صوت ثقافى نقدى حر. لذلك حرص خاصة فى العقدين الأخيرين من تاريخه المشين على أن يحكم قبضته على الثقافة، وأن يدخل المثقفون ــ حسب تعبير عزيز على وزير ثقافة العقدين الأخيرين ــ إلى حظيرة التبعية والهوان تلك.

 

والواقع أنه كان طبيعيا، وقد تجلى بوضوح أن النظام الذى يحكم مصر منذ نجاح الثورة فى إزالة رأس نظام التبعية ذاك لم يتغير، وأن أجندته الحقيقية ليست تحقيق أهداف الثورة برغم شقشقاته المرائية بأنه يحميها ويعبر عنها، أن يواصل وزراء الثقافة نفس النهج الذى أرساه «الوزير الفنان» ونفذه تابعه الهمام جابر عصفور طوال العقدين الماضيين: نهج التبعية للمؤسسة السياسية وأجندتها المعادية لمطامح الثقافة، ولبنية المشاعر الثقافية الوطنية المصرية والعربية معا. وكان طبيعيا أن يشعر مجتمع المثقفين، والمجتمع المصرى من ورائهم بفشل وزراء الثقافة المتتابعين. وقد يتعلل هؤلاء الوزراء بأن المؤسسة السياسية قد كبلت أيديهم، وأن الحكومات التى تتابعت على إدارة شئون البلاد منذ حكومة شفيق وحتى حكومة الجنزورى كانت تعمل على إجهاض الثورة وتشتيت بوصلتها. بصورة أتاحت الفرصة للفلول الذين ترنحوا تحت وقع ضربة الثورة المصمية أن ينظموا صفوفهم، وأن يعيدوا ترتيب بيوتهم، وإطلاق قنواتهم الإعلامية ـ التجهيلية للإسهام بفاعلية فى شيطنة الثورة والإجهاز عليها، وهو الأمر الذى فهمه الثوار وعبروا عنه بوضوح ساطع فى عيد الثورة الأول.

 

لكن غير الطبيعى هو أن يمتد هذا الفشل إلى الجماعة الثقافية ذاتها، التى عجزت هى الأخرى حتى الآن عن أخذ زمام المبادأة الثقافية فى يدها، والبداءة رديف البداهة كما يقول ابن منظور. أى أنه كان من البديهى أن تكون الجماعة الثقافية، وبها عدد لا بأس به من المثقفين الأنقياء الذين لم يلوثهم العمل مع النظام القديم أو الانخراط فى فساده الكريه، أن تكون هى أول من تأخذ زمام المبادأة فى يدها. خاصة بعدما أدرك الجميع فشل المؤسسة الرسمية فى التعبير عن مطامح الثورة الثقافية، والدفاع عن أهدافها الوطنية الشاملة. ليس فقط من أن أجل إيقاف نزيف الثورة، فى واقع يعمل على شيطنتها وعلى تزييف الوعى الشعبى الملتف حولها وتشويهه. ولكن أيضا من أجل الجماعة الثقافية ومستقبل الثقافة ذاته.

 

والسؤال الذى أود أن أطرحه هنا هو: كيف يمكن لنا تفسير إخفاق الجماعة الثقافية فى أخذ زمام المبادأة بأيديها كى تحقق لنفسها استقلالها أولا؟ وكيف يمكن أن نفهم تعثرها فى صياغة أجندة ثقافية تعبر عن الثورة، وعن بنية المشاعر الشعبية السليمة التى التفت حولها وآمنت بشعاراتها الأساسية فى الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية؟ لماذا لم تحقق قطيعتها مع ممارسات التبعية للمؤسسة السياسية، وهو أول أبجديات الثورة، كما فعلت مؤسسة الأزهر مثلا التى حققت شيئا من استقلالها، واستصدرت قانونا يتيح لها حريه اختيار شيخها، دون تدخل من السلطة أو الأمن، بل وسعت من خلال (وثيقة الوفاق الوطنى ووثيقة حرية الإبداع) لأخذ زمام المبادأة والوقوف إلى جوار الثورة، وحراسة أهدافها. لأنها تعى أنها هى التى أتاحت له هذه الحرية، وخلصتها من التبعية والهوان.

 

هذا هو السؤال الجوهرى الذى أرجو أن يشارك فى جدل واسع حوله كل مثقف مصرى مخلص لبلده ولثقافته. لأنه إذا لم تنهض الثقافة وهى المعبر عن ضمير مصر الجمعى وعن مشاعرها وصبواتها بذلك الدور الآن، وسط حراك الثورة وفورتها، فلن تستطيع أن تحقق استقلالها أبدا، ولن تساهم فى بناء صرح تلك الثورة، أو تشارك فى تحقيق أى من أهدافها الكبيرة فى الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. إذا لم تحقق الثقافة استقلال كل هياكلها من اتحاد الكتاب وحتى المجلس الأعلى للثقافة عن إملاءات المؤسسة السياسية والتبعية لها الآن وسط زخم الثورة وسيولتها، فلن تستطيع أن تحققه أبدا. وإذا لم يهب المثقفون بما وفره لهم مجتمعهم من معارف وخبرات، وبوعيهم العقلى وحسهم النقدى بهذا الدور الآن، فكيف ننتظر من غيرهم من شرائح المجتمع القيام به؟ لذلك أقول إذا لم تأخذ الجماعة الثقافية زمام المبادأة الآن، سيظل المثقف تابعا مهيضا للمؤسسة السياسية التى تتسم بطبيعة الأمور وبحراك السياسة المكيافيللى بضيق الأفق والانتهازية والتبعية، تحركه كيفما تشاء، وتعصف به حينما تريد.

صبرى حافظ ناقد أدبي مصري مرموق، وأستاذ الأدب الحديث والمقارن بجامعة لندن. درّس في كبريات الجامعات الغربية. وله العديد من الكتب والأبحاث بالعربية والانجليزية، فاز أحدث كتبه بالانجليزية (السعي لصياغة الهويات) بجائزة (اختيار) الأمريكية لأهم الدراسات الأكاديمية لعام 2009.
التعليقات