المفكر «بلوروا » - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 10:00 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المفكر «بلوروا »

نشر فى : الخميس 30 يناير 2020 - 8:20 م | آخر تحديث : الخميس 30 يناير 2020 - 8:20 م

عزيزي القارئ قد يبدو لك عنوان هذا المقال غريباً بعض الشيء وربما تحاول قراءته مجددًا ظناً منك أن به خطأ، لكن لا تقلق فالعنوان غريب فعلاً والحياة تفاجئنا بين الحين والآخر بكل ما هو غريب، وكما يقولون في الأمثال فإن "اللي يعيش ياما يشوف"، وها نحن نعيش لنشوف .
***
كانت المُدَرِسة الجامعية الشابة تتجول بين صفوف الممتحنين في المدرج الكبير، معظم الوجوه التي تطالعها لم تصادفها في الكلية من قبل فالقاعدة العامة أن الطلاب لا يحضرون المحاضرات، منهم من يعمل، ومنهم من يلعب، ومنهم من يراهن على ضربة حظ. عقارب الساعة تشير إلى التاسعة والنصف صباحاً، ياااااااه مازالت أمامها ساعة ونصف بالتمام والكمال حتى ينتهي الامتحان، ومراقبة الطلاب أثناء أدائهم الامتحان هي ثاني أسخف مهمة يؤديها المشتغلون بالتعليم، أما المهمة الأسخف على الإطلاق فهي التصحيح. تنتاب المصحح مجموعة من المشاعر المختلطة لكن يغلب عليها الملل، وكلما تضخم العدد زاد الملل. في أول تعيينها بدرجة مدرس في الجامعة كانت تتطلع إلى اليوم الذي تُمارس فيه عملية التصحيح، فالتصحيح يعطي المدرس الجامعي سلطة لا يملكها المعيد صغير السن، وهي تريد أن تجلس إلى مكتبها وتنفخ صدرها وأمامها الطلاب يسألون: عملنا إيه في الامتحان يا دكتور؟ فترد بكل فخر: خير إن شاء الله. لكن ما أن دخلت في اللعبة وأُدرج اسمها في كشوف المصححين حتى شعرت بالحنين إلى أيام اللامسؤولية. عاودَت النظر إلى الساعة، معقول مازلنا عند العاشرة صباحاً؟ آلمتها دوالي القدم بشدة فعلى مدار ستين دقيقة وهي تلف وتدور وتتلوى كالثعبان بين الصفوف، ارتمت على مقعد هناك في الزاوية وأوشكت أن تتسلى بالموبايل كما يفعل الطلاب في المحاضرات، لكن قاومت من باب "أتأمرون الناس بالبر وتنسَون أنفسكم"، دست الموبايل في جيبها. ليتهم يأخذون بالمراقبة الإلكترونية وينصبون الكاميرات كي ترصد حالات الغش وتوقع بالغشاشين ، ماذا تقولين؟ أولا تعلمين أن المراقبة الإلكترونية مثلها مثل التصحيح الإلكتروني لا تناسب كل الظروف ولا تصلح لكل التخصصات، أومأت برأسها وتمتمت: بلى أعلم ذلك. عدّلت من هندامها وثبتت النظارة الفريملس فوق أنفها وراحت ترمق الصفوف المترامية أمامها على مدد الشوف .
***
استدعاها طالب يريد الاستفسار عن جملة في ورقة الأسئلة فسحبها قليلًا من شرودها، أشار الطالب إلى الجملة التي التبس عليه فهمها وكانت تقول "حظت قيمة التقدم باهتمام العلماء والمفكرين بدرجات متفاوتة، ففي حين كانت موضوعاً لمناظرات البعض فإن آخرين قطعوا خطوة أبعد وبلوروا نظرية خاصة بها- ناقش هذه العبارة على ضوء دراستك". سألها الطالب باهتمام: هل "بلوروا" من بين المفكرين الذين كتبوا عن التقدم؟. لأول وهلة ظنت صاحبتنا أنها لم تسمع جيداً فطلبت تكرار السؤال فكرره الطالب: هل "بلوروا مفكر"؟. هنا وقعت المُدَرسة الشابة في حيص بيص ولم تدر ماذا تفعل بالضبط ، هل تتجاهل الطالب وتنصرف عنه؟ لا.. هذا لا يجوز، هل تنفعل عليه؟ لا.. هذا أيضاً لا يجوز، هل تقول له ما أعرفش.. لا لا لا.. أجابت ببرود أعصاب مصطنع "بلوروا مش مفكر" ثم أعطت الطالب ظهرها وذهبت. على مدار حياتها العملية التي تمتد لعشرة أعوام مرت صاحبتنا بالكثير من المواقف العبثية، لكنها تزعم، لا بل إنها تؤكد، أنها لم تصادف موقفاً مماثلًا لموقف السؤال عن "المفكر بلوروا" لدرجة أن هذا السؤال أربكها فعلا، فدع عنك ما درسه الطالب وما لم يدرسه، ودع عنك تركيبة السؤال وعدم التمييز فيه بين الاسم والفعل، هل صادف الطالب من قبل في حياته شخصاً يُدعي "بلوروا"؟. ابتسمت صاحبتنا.. اتسعت ابتسامتها، قفز إلى ذهنها فجأة ذلك المشهد اللطيف جدًا من فيلم "اسماعيل يس في الأسطول" عندما طلب الشاويش عطية من العسكري رجب أن يحدد له العمل المكلف به على المدفع فأجابه رجب متلعثماً "بروروم"، هنا استشاط الشاويش عطية غضباً وصرخ في وجهه قائلاً" بروروم.. شُغلِتَك على المدفع بروروم"، ومن بعد صار هذا الإفيه من بين الإفيهات الكلاسيكية في السينما المصرية، وها هو "المفكر بلوروا" يصبح بدوره من كلاسيكيات الامتحانات الجامعية، بروروم لا يختلف كثيراً عن بلوروا.
***
لقد أصبحت لسوق الشغل متطلباتها التي لا تمُت بصلة للمعلومات العامة ولا حتى الخاصة، يكفيك إتقان لغة أجنبية واستخدام الحاسب مع بعض الفهلوة لتفوز بفرصة عمل نادرة. الآن تَذكرت حديثها مع موظفة البنك البشوشة حين قالت لها يوماً إنها لا تقرأ ولا تتابع الأخبار أبداً لأن الكل يكذب والكل يلوي الحقائق، لذلك قررت أن تنجو بنفسها وتتقوقع داخل عالمها، من البيت للبنك ومن البنك للبيت. هل تعرف موظفة البنك معنى كلمة "بلوروا"؟ إنها كي تتلقى إجابة السؤال يجب أن تطرحه عليها أولاً، وهي تستحي. لماذا لا يذاكر طلابنا؟ لأننا مملون.. لأنهم غير مسؤولين.. لأن هناك ما يشتت انتباههم، اختر الإجابة التي تناسبك، ها قد بدأنا مبكراً عملية التصحيح. ولماذا لا يقرأ أولادنا؟ لأن المعروض ردئ.. لأن الكل يكذب كما قالت موظفة البنك.. لأن القراءة لم تعد تفيد.. اختر أيضا ما يناسبك لكن تذكر وأنت تجيب أنه حين مات أحمد خالد توفيق كان جمهوره الكبير جداً من الشباب .
***
أخيرًا إفراااااج.. انتهي وقت الامتحان، راحت المُدرسة الشابة تجمع أوراق الامتحان، توقفَت عند صاحب سؤال "المفكر بلوروا" وابتسمت ابتسامة عريضة، لم يفهم الطالب سر ابتسامتها لكنه بادلها واحدة بواحدة، وأظن أنه في مثل هذا النوع من المواقف يقال : كلٌ يغني على ليلاه .

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات