خلاويص؟ - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 5:47 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خلاويص؟

نشر فى : الخميس 30 مارس 2017 - 9:35 م | آخر تحديث : الخميس 30 مارس 2017 - 9:35 م

الساعة الآن تجاوزت الرابعة عصر الخميس ــ هكذا حدثت مدام مهجة نفسها، هى لا تحتاج أن تلقى نظرة على الساعة لتعرف حقيقة الوقت فهناك كل يوم ما يتكفل بتنبيهها إليه. عاد أبناء حراس العقارات فى الحى الراقى من مدارسهم، وبعد أن خطفوا لقيمات سريعة وأحيانا قبلها ها هم ينتظمون فى فريقين: فريق يختبئ فيما بين السيارات أو خلف الأشجار، والفريق الآخر يُجند نفسه بكل همة للبحث عنهم. وهكذا اعتادت مدام مهجة كل يوم أن تعد طعام الغداء على وقع أصواتهم، يصيح فريق منهم: خلاويص؟ فيرد الآخر بصوت مراوغ: لسه، ويتكرر هذا الديالوج حتى يطمئن المختبئون إلى أنهم تواروا عن العيون فيبدأ أقرانهم فى رحلة البحث عنهم. قبل أن تنتهى من تجهيز المائدة سوف يخرج من شرفته فى العمارة المجاورة جارها الستينى القبطان عز لينهر الصبية بعد أن طيروا النوم من عينيه فيتوقفون قليلا ريثما يغفو أو يمل ليعودوا سيرتهم ولا ينتهرون أبدا. ومع أن الأصل أن هذا السيناريو يحدث مرة واحدة فى اليوم لكن ليس هناك ما يمنع أبدا من أن يحدث أيضا فى المساء، والأمر يتوقف فى النهاية على طاقة الصبية ومدى استمتاعهم.
***
إن الفصول التى يدرس بها هؤلاء العفاريت أشبه ما تكون بعلب السردين، مدارسهم تخلو من الأفنية أو تكاد لكنهم مرغمون على ارتيادها وتنفيذ العقوبة الصباحية الإجبارية، الغرف التى ينحشرون فيها مع أسرهم فى جراچات المنازل ليست أفضل حالا بالتأكيد، فلا يعود أمامهم من براح إلا الشارع يمارسون فيه شقاوتهم، ينطلقون بلا ضابط، يتقافزون ويتشاتمون ويتسببون فى كوارث بلا عدد. فى الصيف الماضى صدمت سيارة أحد الأطفال وهو يعدو غير منتبه لكن الله سلّم، وقبل أسبوعين سقط آخر على ذراعه واحتاج لتثبيت شرائح ومسامير. حكايات الصبية لا تنتهى فهم يلعبون معا فى ألفة تامة، تجمعهم روابط قرابة أو نسب استقووا بها على غربتهم فى العاصمة وعلى غرابة أهل العاصمة.
***
لكن كل أيام الأسبوع كوم ويوم الجمعة كوم آخر تماما، يبدأ الأشبال يومهم بمباراة لكرة القدم يلعبونها بحماسة فائقة تنتهى عادة بعراك، فالفريق المهزوم لا يعترف أبدا بالهزيمة. تتعالى من الشارع أصوات زاجرة «اختشوا يا أولاد الناس نايمين» فلا هم يختشون ولا عاد الناس نياما. وعندما تظهر مدام مهجة فى الشرفة لتنادى على حارس العقار لشراء بعض الطلبات تلمح ابنه محمود صاحب الأربعة عشر عاما وهو يركن سيارة أحد السكان فى مكان آمن بعدما باتت السيارة ليلتها فى عرض الطريق، وفِى بعض الأحيان ترى الصبى ينحرف يمينا بالسيارة إلى الشارع الرئيسى فترجح أنه ذهب لتوصيل أحد الأقارب لمكان فى الجوار، وقد يجنح بها خيال متواضع فلا تستبعد أن تكون خدمة التوصيل بمقابل، ولم لا فهؤلاء الصبية لا يبدون اهتماما كبيرا بالدراسة، تبدأ معهم آمال الأهل كبيرة ثم تتراجع مع توالى الرسوب ليصبح احتراف الأبناء قيادة السيارات أقصى أمانيهم.
قبل أن يؤذَن لصلاة الجمعة يختفى الصبية من الشارع فجأة ليظهروا بعد قليل بشعور مرجلة وجلابيب بيضاء فإذا هيئتهم قد تبدلت بالكامل، حتى إذا حلوا بالمسجد بدأ فصل جديد من فصول شقاوتهم. يختارون عادة الصف الأخير وينفقون وقتا فى حفظ استوائه واستقامته ثم يحدث أن يلكز أحدهم زميله أثناء الركوع أو يحتكان حين السجود فيبدأ التلاسن ويتعالى الهرج ويتكهرب المكان، ينهرهم الخطيب، ويردد مصلون أن هذا صار هو الحال كل يوم جمعة، يتوسط آخرون لتهدئة الموقف حتى إذا انتهت الصلاة تكون فى انتظار الصغار وصلة تقريع.
***
إن المسافة بين شرفة مدام مهجة والشارع لا تقاس فقط بالطوابق الأربعة التى تفصل بينهما، لكنها تقاس بعالمين مختلفين يقعان فى الشارع الواحد بل والعمارة نفسها، عالم ينتمى للطبقة الوسطى وربما العليا والآخر ينتمى للطبقة الدنيا. هكذا يبدو أن التناقض بين العشوائيات والأحياء الراقية ليس هو التناقض الوحيد بل ولعله ليس التناقض الأخطر، فالتناقض بين سكان البنايات وسكان الجراچات أدهى لأن المقارنة تصبح أسهل وأمّر. فلسوف يعبر أبناء السكان بثيابهم الغالية ولعبهم وحلواهم من أمام أبناء حراس العقارات فيرمقهم هؤلاء ويرتفع سقف طموحهم لينهار من بعد فوق رءوسهم. ولسوف يتعايش جنبا إلى جنب نظامان للقيم الأول يعاقب الطفل المخطئ بالحرمان من الذهاب للنادى والثانى يوثق الطفل المغضوب عليه أو يكويه بالنار. وسيظل السكان ينجبون أقل والحراس ينجبون أكثر فأكثر. لقد قدم لنا فيلم «البيه البواب» قبل ثلاثين عاما شخصية حارس العقار الذى يشتغل بالبيزنس وأدخلنا من خلاله بامتياز إلى جوهر التناقض بين سطح العمارة وسفحها، لكنه لم يحدثنا عن الجيل الثانى من النازحين من صعيد مصر الذين يولدون ويكبرون فى أتون هذا التناقض ويمثلون قنابل موقوتة جاهزة للانفجار.
***
كانت شمس يوم الجمعة تزحف ببطء نحو الغرب وتلملم خيوط الضوء كما يلملم الصياد شباكه فى آخر النهار حين شهدت البناية المجاورة لبناية مدام مهجة مولد الابنة الثامنة للحارس، كانت الولادة متعثرة فالأم الضامرة لم تبلغ بعد عامها الثلاثين لكنها مع ذلك لا زالت قادرة على منح الحياة لمولود جديد جاء أنثى على غير ما يشتهى الأب. لم تنطلق الزغاريد كالعادة ولا ظهرت مظاهر للاحتفال، لكن من بعيد كان يُسمع صوت فريق الأشبال يصيح بعضه فى قوة: خلاويص؟ فيرد عليه الآخر مراوغا: لسه.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات