غَـــــــلوَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 2:20 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

غَـــــــلوَة

نشر فى : الجمعة 30 سبتمبر 2022 - 7:10 م | آخر تحديث : الجمعة 30 سبتمبر 2022 - 7:10 م

إذا تواجه اثنان كلاميًا وحاجج أحدُهما الآخرَ بما لم يستطِع معه أخذًا ولا ردّ؛ قيل بالتعبيرِ الشعبيّ الثاقِب: لم يأخذ في يده غلوة، والقصد أن فيهما من تمكَّن من إخضاع الثاني لرأيه؛ ربما عن طريق إقناعِه بالمنطِق، وربما عبر التلاعُب به وتضليله. الفاعلُ واسع الحيلة يملِك المهارةَ والذكاءَ اللازمين لتحقيقِ غرضِه، والمفعول به طيِّع، سهل الانقياد، يتأتى التأثيرُ عليه سريعًا وتسهل استمالته.
•••
غلوةٌ واحدةٌ ثم تطفئين النارَ وتتركين الطبخةَ لتنضج في حرارتها. خطوةٌ مُتكررة في وصفاتِ الطهو، يُلقي بها الطاهي المُتمرِّس مُنبهًا المُشاهداتِ والمشاهدين لأهميةِ تعليماته، وضرورة توخِّي الدقَّة عند اتباعها. الغلوةُ قصيرةُ الأمدِ أكيدةُ المفعول؛ تُستَخدَم لتحقيقِ أغراضٍ مُتنوِّعة لا تقتصر على الإنضاج؛ فغلوةٌ سريعةٌ تقي الطعامَ شرَّ الفساد قبل حفظه في الثلاجة، وغلوةٌ وقائيةٌ أطول وقتًا إذا طالت ساعاتُ بقائه في درجةِ حرارةٍ عاليةٍ دون تبريد، وغلوةٌ لا ينبغي أن تطولَ بأبريق الشاي تجنبًا لإضفاء المرارة على مذاقه.
• • •
الغلوةُ في معاجم اللغةِ العربيةِ القديمةِ هي مِقدار الرميةِ من السَّهم، وهي أيضًا المرةُ الواحدة من الفعل غلى، ومصدره الغليان الذي يصفُ حركةً يمور بها السائلُ ما تعرَّض للتسخين في درجة حرارةٍ عاليةٍ، فإن زادت تصاعد معها مُعدَّلُ البَخرِ إلى أن يتحول المُحتوى إلى غاز. ليس الغليانُ بمُقتصِر على السوائلِ؛ فالبشر أنفسهم قد يتعرَّضون للغليان؛ إنما مجازًا. كثيرًا ما يُعلن الواحد في مُواجهة المُحيطين به أنه يغلي، قاصدًا أنه يحمل غضبًا وغيظًا عاتيين، أما إذا ذُكِرَ غليانُ الشارع، فكناية عن سُخط تمُوج به الأجواءُ والأمزجةُ، وقد تندفع نحو الفوَّهة.
• • •
إذا غالى المرءُ في رأيٍ أو أمر، فالمعنى أنه أمعن فيه وتمادى. ربما طلبَ ما يعجز عنه الآخرون أو ألزمهم ما لا يطيقون، أو بالغ في ردِّ فعله على ما لا يستحقُّ المبالغة. الغلواءُ في السياق ذاته هي التشدُّد والإفراط وربما تجاوُز الحدِّ المقبول؛ فإذا قيل غلواءُ الشبابِ، فحدَّته في البدايات وعنفوانه، وقديمًا أنشد أحمد شوقي قصيدتهَ الشهيرة ”وُلِدَ الهدى“ وفيها: والدين يُسر والخلافةُ بيعة.. والأمر شورى والحقوقُ مضاء، الاشتراكيون أنت إمامهم .. لولا دعاوى القومِ والغلواء. الغلواءُ هنا في حُكمِ التزيُّد، وقد اعترض الملكُ لا عليها، بل على مُفردة ”الاشتراكيون“؛ كونه يمقت الاشتراكيةَ كمذهبٍ سياسيّ ولا يحبِّذ الترويجَ لها عبر صوتٍ كاسحٍ كصوتِ أم كلثوم، والحقُّ أن هذا البيتَ لو قيل في أزمنةٍ أخرى وعهود لاحقة؛ لوجد اعتراضاتٍ تفوق ما أعلنها فاروق في حينه.
• • •
في أيامٍ ولَّت؛ درج الناسُ على ابتياع الحليبِ الطازجِ من اللبَّان الذي يطوف بالبيوت، يحمل اللبنَ السائب ويصبُّ منه في كوز ويعاير المقدارَ المطلوب. يُوضع اللبنُ بعد ذلك في إناءٍ مَخصوص ويترك في طقسٍ مُعتاد كي يغلي جيدًا. غلوةٌ والثانية والثالثة ثم يُترَك في مكانِه ليهدأ رويدًا، ويدفع بالقشدة إلى أعلي. تُصنع القشدةُ طبقةً عازلة، يُعرَف من قوامِها ولونِها الكثير؛ جودة اللبن ونوعه واحتمالات خلطه بالمياه من عدمها. على كل حال لم يعد هناك لبَّان، أو هو في طريقه ليصبح من المُنقرِضَات، إذ أصبح اللبنُ مُعالجًا مَحفوظًا داخل علبٍ مصنوعة من الورق المقوَّى أو المعبأ في زجاجات بلاستيكية، كذلك لم تعد هناك قشدةٌ مَنزلية؛ إنما صارت تُشترى من المتاجر والمحلات وتفسد في أسرع فرصة.
• • •
تراود ذاكرتي بعضَ المرات، مشاهد غير واضحة من طفولة بعيدة، فيها آنية ضخمة واسعة الفوهة، قابعة على الموقد في مكان غائم الملامح، تغلي مياهُها وتفور، وليس بها أيّ نوع من الأطعمة، إنما قطع من النسيج. عرفت لاحقًا أنها تلك المُستخدَمة في عمليات التنظيف؛ لا بد وأن تأخذ غلوة وعشرًا قبل أن تُوضَع في الغسَّالة مُنفرِدة، وبمعزل عن أيّ ملابس مُتسخة. لم أر هذا المشهدَ سوى مرات قليلة، توارى بعدها من أرض الواقع وبقيت أضغاثُه في المُخيِّلة. لم تعد هناك حاجةٌ لغلوةٍ تفتت الأتربةَ اللزجةَ العالقة، فقد توالى ابتكار المساحيقِ الفتاكة، ومُزيلات الشوائب المُبهرة، وظهرت مُنظِّفات متنوعة الأسماء تعمل بطرق أيسر، ولا تحتاج إلى مثل هذا جهد.
• • •
إذا أحسَّ المرءُ بإهانة جسيمة، فأقدم على فعلٍ عنيف ليثأر ممن هزأ به وازدراه؛ قيل في البحثِ عن أعذار: قد غلى الدَّمُ في عروقه. غليانُ الدم ليس كغليانِ المياه؛ إذ يدفع للإتيان بما لا تُحمَد عقباه، والنتائجُ في العادة وَخيمةٌ، لا يمكن إصلاحها ما وقعت.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات