على صوت بكاء طفلتها الذي ملأ محيط مخيم نزوحها، أخذت بعض النساء يتساءلن عن سبب بكائها المستمر ظنًا منهن أنها تعاني ألمًا ما، فتجيب الأم بأن طفلتها جائعة ولا يوجد حليب لإرضاعها منذ يومين.
فجأة خرّج صوت يقول لها: «حطي إلها بالرضاعة عدس مسلوق»، تدير الأم بوجهها ناحية الصوت وإذ بأم تحمل على يدها طفلٌ لم يتجاوز الأشهر القليلة، تنظر إليها وعلامات الاستفهام بادية على وجهها لتستدرك الأخرى حديثها: «هيك بعمل مع ابني، فش حليب بطعميه عدس بدل ما يموت من الجوع».
ويشكل الحليب الصناعي والعلاجي شريان حياة للرضع في قطاع غزة، ونفاده من المستشفيات والأسواق يفاقم معاناتهم.
تقول المواطنة دعاء شوحة لوكالة «صفا»: «في بداية الأمر خفت من تأثير العدس على طفلتي التي لم يتجاوز عمرها العام والنصف بعد، إلا أنني كنت مضطرة لآخذ بنصيحة تلك الأم حتى لا تموت جوعًا».
وتضيف: «أسلق العدس ومن ثم أُخففه بالماء وأضعه جانبًا حتى يبرد، وبعدها يتم وضعه بالرضاعة وإطعامه لطفلتي، كي تسد جوعها، لكن لا يغني عن الحليب».
وتتابع: «لا خيارات متاحة أمامنا، نخلق من العدم حياة حتى لا نتذوق طعم الفقد، تعبت أرواحنا من مرارة الأيام دون أحبابنا ولا نرغب بمزيد من الفراق، لذلك اخترعنا حليب العدس للأطفال».
وتشير إلى أن الاحتلال الإسرائيلي يتعمد إغلاق المعابر ومنع إدخال حليب الأطفال ليموتوا جوعًا، فهو يحارب الصغار في قوتهم، لأنهم من غزة فقط.
وحذَّرت مستشفيات في غزة من كارثة صحية وشيكة تهدد حياة آلاف الأطفال الخُدّج والرُضّع في أقسام الحضانة، نتيجة نفاد الحليب العادي والعلاجي بأنواعه المختلفة.
وحسب منظمة الصحة العالمية، فإن نحو 112 طفلًا فلسطينيًا يدخلون المستشفيات بالقطاع يوميًا لتلقي العلاج، من سوء التغذية منذ بداية العام الجاري، جراء الحصار الإسرائيلي الخانق.
ولا يختلف وضع ولاء السرساوي عن سابقتها، فهي أم لطفلين لم يتجاوز الصغير منهما العام الأول من عمره، تعاني الأمرين، بعد نفاد الحليب لديها وامتناع طفلها عن تناول بعض الأطعمة التي تصنعها، ما اضطرها للجوء إلى حليب العدس كتجربة هل «سيتقبله طفلها أم لا؟».
تقول السرساوي لوكالة «صفا»: «كنت قد جربت إطعامه بعض الخضار المسلوقة والعدس المطبوخ، إلا أنه رفض تناول أي شيء، ويبكي لأنه يريد تناول الحليب».
وتضيف: «سمعت بما تفعله الأمهات من سلق للعدس وتخفيفه بالماء، فقررت تجربة ذلك على أمل أن يدخل إلى جسمه بعض الطعام، وقمت بوضعه في الرضاعة فشربه ظنًا منه أنه حليب».
تبكي الأم صغيرها، وتتحدث بحرقة شديدة: «ما ذنب هؤلاء الصغار حتى يتم حرمانهم من طعامهم، أنا وابني بناكل نفس الأكل، هذا الطعام ممكن أنه يسبب له التهاب في الأمعاء، إلا أننا نخاطر حتى لا يتحول الهزال إلى سوء تغذية حاد ووفاة».
وتتساءل: «إلى متى سيبقى الحال هكذا، بدهم يموتونا يدخلوا إلنا حليب الأطفال، على الأقل بنموت وضميرنا مرتاح من ناحية أولادنا، بيكفي خداع، اليوم رضي ياخذ حليب العدس، لكن مع الأيام رح تعوفه نفسه ويصير يكرهه».
وتصف السرساوي، قائلة: «كلما وضعتُ العدس المخفف داخل الرضاعة وأعطيته لصغيري، أشعر وكأن سكينًا غرست في قلبي على الحال الذي وصل إليه طفلي الذي يريد الحليب ونكذب عليه بالعدس».
وتناشد الأم ضرورة التدخل السريع من جميع الأطراف لإدخال حليب الأطفال، والأطعمة اللازمة، بهدف وقايتهم من سوء التغذية.
وحسب المكتب الإعلامي الحكومي بغزة فإن 66 طفلًا استشهدوا، نتيجة سوء التغذية الحاد، بفعل استمرار الاحتلال في إغلاق المعابر ومنع إدخال حليب الأطفال والمكملات الغذائية المخصصة للفئات الهشة والضعيفة، لا سيما الرضّع والمرضى.
والأربعاء، أعلنت وزارة الصحة بغزة أن الأوضاع الصحية والإنسانية وصلت إلى «مرحلة كارثية»، بفعل استمرار الإبادة، مشيرة إلى تفاقم حالات سوء التغذية بين الأطفال، خاصة الرضع، في ظل انعدام توفر الحليب العلاجي.
ومنذ الثاني من مارس الماضي، تواصل إسرائيل إغلاق معابر قطاع غزة ومنع إدخال المساعدات والمستلزمات الغذائية والطبية للقطاع، بما في ذلك حليب الأطفال، ما أدخل القطاع مرحلة المجاعة وأودى بحياة كثيرين.