منذ عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض تزايد الحديث عن سحب القوات الأمريكية المنتشرة في دول حليفة مثل كوريا الجنوبية واليابان وألمانيا، بدعوى أن الولايات المتحدة تتحمل عبء الدفاع عن تلك الدول التي تحقق مكاسب اقتصادية على حساب المصالح الأمريكية بحسب ما ردده ترامب في مناسبات عديدة.
ويعتبر الوجود العسكري في شبه الجزيرة الكورية حيويا للغاية في ظل حالة الحرب الرسمية بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، مع استمرار تعزيز القدرات العسكرية التقليدية والصاروخية والنووية للشطر الشمالي من شبه الجزيرة.
وفي 23 مايو الماضي ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال أن الولايات المتحدة قررت سحب 4500 جندي من قواتها في كوريا الجنوبية، ونقلهم إلى قاعدة جوام وغيرها من القواعد العسكرية في المنطقة.
ونفى شين بارنيل المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية هذه الأنباء، لكن مسؤولين آخرين قالوا إنه في حين لم يتم اتخاذ قرارات بشأن سحب القوات لكن الموضوع رهن النقاش الجاد في وزارة الدفاع الأمريكية وقيادة القوات الأمريكية في كوريا والمحيطين الهندي والهادئ.
وفي تحليل نشره مركز الدراسات الاستراتجية والدولية طرح فيكتور تشا رئيس قسم السياسة الخارجية والجيوسياسية ورئيس كرسي كوريا الجنوبية في المركز عدة أسئلة حول الوجود العسكري الأمريكي في كوريا الجنوبية واحتمالات سحبه وتداعيات مثل تلك الخطوة، ومحاولة الإجابة عليها.
أول الأسئلة عن السبب الذي يدفع واشنطن للتفكير في مثل هذه الخطوة، حيث يرى فيكتور تشا أن الدافع وراء هذه الفكرة يتمثل في الهدف المعلن لإدارة الرئيس ترامب بإعادة تمركز القوات الأمريكية وحشدها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ للتركيز على تحقيق التفوق أي صراع محتمل مع الصين بشأن تايوان أو داخل سلسلة الجزر الأولى (وهي سلسلة الجزر الممتدة من جزر الكوريل في اليابان إلى تايوان والفلبين وبورنيو).
وفي كلمته أمام قمة المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية للأمن في آسيا المعروفة باسم حوار شانجريلا في 31 مايو أكد وزير الدفاع الأمريكي بيت هيجسيث أن الولايات المتحدة ملتزمة بردع العدوان في "مسرح العمليات ذي الأولوية" في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وأنها "تعيد توجيه نفسها لردع عدوان الصين الشيوعية"، بما في ذلك أي محاولة من جانب الصين "لغزو تايوان بالقوة" أو "لتغيير الوضع الراهن في بحر الصين الجنوبي وسلسلة الجزر الأولى بالقوة أو الإكراه".
كما أن إدارة ترامب تتوقع أن يتحمل الحلفاء والشركاء في المنطقة عبء الدفاع عن النفس بشكل أكبر. وتنطبق هذه المبادئ تحديدًا على كوريا الجنوبية، حيث لطالما نشرت الولايات المتحدة قوات برية في شبه الجزيرة مخصصةً تحديدًا لحالة طوارئ واحدة وهي هجوم كوري شمالي ثانٍ. ووفقًا لمسؤولي إدارة ترامب، يجب نقل عبء الدفاع عن كوريا الجنوبية إلى سول، التي تمتلك جيشًا كفؤًا ومؤهلًا لهذه المهمة.
أما السؤال الثاني فيتعلق بما إذا كانت الولايات المتحدة قد خفضت قواتها في كوريا الجنوبية قبل ذلك.
ويجيب تشا بأن ذلك حدث قبل ذلك في عام 1960 عندما خفضت إدارة الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت داويت إيزنهاور حجم القوات في كوريا الجنوبية إلى 55 ألف جندي. وكانت المرة الثانية في 1971 عندما سحبت إدارة ريتشارد نيكسون الفرقة السابعة مشاة منها في إطار ما عرف باسم "مبدأ جوام" الذي طالب الحلفاء بتحمل جزء أكبر من عبء الدفاع عنهم. وفي عام 1977 دعا المرشح الديمقراطي للرئاسة الأمريكية جيمي كارتر إلى سحب كل القوات الأمريكية من شبه الجزيرة الكورية الجنوبية، وهو الموقف الذي تراجع عنه عقب فوزه بالرئاسة. وفي أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001 سحب الرئيس جورج بوش الابن لواء مقاتل للحرب في العراق. وإذا خفض الرئيس ترامب القوات الأمريكية في كوريا الجنوبية سينخفض العدد إلى أقل من 20 ألف مقاتل وهو أقل مستوى لها منذ نهاية الحرب الكورية في مطلع خمسينيات القرن العشرين.
ولعل السؤال المهم هو هل سينسف سحب القوات الأمريكية أمن كوريا الجنوبية؟
ويقول تشا إن عدد القوات المحتمل سحبها البالغ 4500 جندي، يعادل حجم فريق لواء سترايكر القتالي، وهو قوة مشتركة متنقلة واستكشافية مصممة للاستجابة لمجموعة من الطوارئ المحتملة.
في الوقت نفسه فإن سحب لواء أمريكي واحد من كوريا لن يؤثر كثيرا على أمن شبه الجزيرة من منظور الدفاع والردع. فالجيش الكوري الجنوبي يلعب الدور الرئيسي، من حيث القوات التقليدية، في مواجهة أي هجوم كوري شمالي، بالتعاون مع القوات الجوية والبحرية الأمريكية، بالإضافة إلى موارد الاستخبارات والاستطلاع. كما يتمتع الجيش الكوري الجنوبي بتجهيز وتدريب أفضل من خصومه الكوريين الشماليين في القتال التقليدي.
لكن يظل وجود قوة أمريكية على أرض كوريا الجنوبية رسالة ردع تؤكد استمرار التزام واشنطن بالدفاع المشترك عن حليفتها في مواجهة أي عدوان كوري شمالي.
ويصل السؤال الرابع عما إذا كان سيتم سحب المزيد من القوات الأمريكية من كوريا الجنوبية، لقول المحلل الاستراتيجي إنه قد يحدث تغيير كبير في هيكل القوات الأمريكية على شبه الجزيرة الكورية، بما في ذلك خفض حجم القوات البرية وتحسين القدرات الجوية والبحرية لمواجهة أي طوارئ في تايوان. وفي حين أن وتيرة هذه التغييرات ستخضع لمنطق عسكري، فإنها يمكن أن تتسارع في ظل وجود ترامب الذي أعلن رغبته في إنهاء وجود القوات البرية الأمريكية في كوريا الجنوبية، التي يرى أنها دولة غنية تخدع الولايات المتحدة، وأنه عليها الدفاع عن نفسها بدلا من الاعتماد على واشنطن.
ويختتم فيكتور تشا تحليله بالسؤال عن السياسة الخارجية الواجب على واشنطن اتباعها بشأن كوريا الجنوبية فيما بعد، ويقول إن إدارة ترامب تحتاج إلى استمرار التنسيق الوثيق مع حلفائها في الوقت الذي تغير فيه أوضاع القوات الأمريكية في منطقة المحيط الهندي والهادئ. فسحب قوات من أحد المواقع الراسخة، وإن بدا منطقيا من وجهة نظر وزارة الدفاع، فإنه لا يحدث في فراغ سياسي، ويمكن أن يؤدي إلى عواقب غير محسوبة تهدد المصالح الأمريكية. لذلك يجب تنسيق عمليات الانسحاب على المستوى العملياتي مع إدخال تعديلات تعزز قدرة الجيش الكوري الجنوبي على تحمل نصيب أكبر من العبء الدفاعي. كما يجب إجراء مشاورات وثيقة مع اليابان، التي ترى أن أي تقليص في قدرات الدفاع والردع في شبه الجزيرة الكورية يُقوّض أمنها بشكل مباشر.
وفي الوقت نفسه يمكن أن يؤدي التسرع في تطبيق خطة أمريكية لإعادة تمركز القوات خارج كوريا الجنوبية دون هذه المشاورات إلى خلافات غير ضرورية بين الحلفاء. على سبيل المثال، إذا اعتقدت سول أن الولايات المتحدة تعمل دون مراعاة لحلفائها، فقد تتبنى أيضًا نهجًا يستند إلى الاعتماد على الذات في الدفاع عن نفسها. أما اليابان التي ترى في أفضل الأحوال أن كوريا الجنوبية تمتلك الحد الأدنى من القدرات المطلوبة للدفع عن نفسها وردع جارتها الشمالية، فقد تتجه نحو تعزيز قدراتها العسكرية مع تزايد الشكوك في جدوى استمرار الاعتماد على الحماية الأمريكية.
كما يتحتم على إدارة ترامب إجراء تقييم استخباراتي شامل قبل أي تخفيضات إضافية للقوات في شبه الجزيرة الكورية، وذلك لمعرفة ما إذا كانت التحركات الأمريكية تسُشجع كيم يونج أون زعيم كوريا الشمالية على التحرش بجارته الجنوبية أم ستُثنيه عن ذلك. لكن لسوء الحظ لا يعطي ترامب لمثل هذه الاشتراطات الاهتمام الكافي، وهو ما يفتح الباب أمام سيناريوهات خطيرة إذا مضى قدما في سحب القوات الأمريكية من كوريا دون التشاور مع الحلفاء ودراسة العواقب المحتملة من كافة الجوانب.