يرجع الفضل لظهور نوادى القراءة إلى النساء بامتياز؛ فعلى مر العصور اعتادت النساء اللقاء أينما استطعن الحصول على بعض الكتب وبعض الهدوء فى الفصول الدراسية الفارغة، والغرف الخلفية للمكتبات، وفى منازل الأصدقاء، وحتى أثناء العمل فى المطاحن من أجل الحديث حول الكتب.
فى البداية، كانت حلقات القراءة الأمريكية تنعقد فى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر ــ وهى المرحلة السابقة لظهور نوادى الكتاب ــ من أجل تعطش النساء للأدب والرغبة فى مناقشته مع نظيراتهن من ذوات التفكير المماثل، وقد أنشأت الصحفية الأمريكية مارجريت فولر، وهى أول مراسلة حربية ومحررة مجلة فى أمريكا ــ أول نادى قراءة معروف ومنحته اسما نمطيا هو «المحادثات» عام 1839، غير أن هدفها فيه كان أبعد ما يكون عن النمطية؛ حيث سعت من خلاله لحشد النساء اللواتى يعشقن التفكير الحر والمناظرة ويبحثن عن الإجابات عن الأسئلة الوجودية العظيمة على غرار: لماذا أتينا للحياة؟ وماذا نفعل فيها؟ وقد علقت إحدى مريدات النادى ذات مرة بقولها: «إن فولر فتحت لهن كتاب الحياة وساعدتهن فى قراءته بأنفسهن».
كانت محادثات «فولر»، مثلها مثل العديد من الدوائر الأدبية الأخرى، وسيلة للنساء لنيل المعرفة ولفهم أنفسهن والعالم من حولهن، وقد شبهت الكاتبة الأمريكية ميجان مارشال، مؤلفة السيرة الذاتية الحائزة على جائزة «البوليتزر» «مارجريت فولر: حياة أمريكية جديدة»، تلك الاجتماعات بمجموعات زيادة الوعى فى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى، وقالت: «كان هناك شعور بقوة المرأة ينبع من هذه الجلسات».
وأردفت: «ربما تم استبعاد النساء من الصالونات الثقافية والدراسات الفلسفية فى الجامعات فى الماضى، لكنهن وجدن طرقا أخرى للتعامل مع الأدب»، وتابعت: «لقد تبلور دور المرأة الرئيسى فى تأسيس نادى الكتاب الحديث نتيجة للتهميش من الفضاءات الفكرية الأخرى، واستمر حتى يومنا هذا فى تشكيل المشهد الأدبى بطرق عميقة ومؤثرة».
ولقد تطور دور المرأة فى الأدب عبر العصور؛ فبعد أن كانت على الهامش، أصبحت الآن واحدة من أهم القوى المؤثرة فى عالم الكتاب، وتبلغ نسبة مبيعات الكتب النسائية ــ لا سيما تلك التى تنتنمى لأدب الخيال ــ نسبة مذهلة تبلغ 80 % من إجمالى المبيعات، وقد علق أحد النقاد الأدبيين على ذلك الأمر ذات مرة قائلا: «بدون النساء ستلقى الرواية حتفها».
وتعد نوادى قراءة المشاهير ــ التى تديرها غالبا نساء شهيرات أو مؤثرات مثل المذيعة الأمريكية أوبرا وينفرى أو الممثلة الأمريكية ريس ويذرسبون ــ عاملا لزيادة مبيعات الكتب أكثر من كونها مجرد تجمُع من أجل مناقشة كتاب بعينه، وهو ما يوضح الأثر البالغ للنساء فى نوادى الكتب؛ ففى الماضى كان ينُظر لنوادى الكتاب على أنها مجرد تجمُع نسائى للنميمة لا يغنى ولا يسمن من جوع، ولكنها الآن أصبحت مكانا مميزا يمنح النساء القوة وفرصة الانخراط فى القوة التحويلية للكتب.
وقد اعتادت النساء الأمريكيات على الاجتماع معا لدراسة الكتاب المقدس منذ القرن السابع عشر، ولكن لم تظهر دوائر القراءة العلمانية إلا فى أواخر القرن الثامن عشر، فى نفس الوقت تقريبا مع نظرائهن الأوروبيين، وتباينت دوائر القراءة بشكل كبير حول شتى الموضوعات من الأدبيات إلى العلوم، وكان الاهتمام بتوسيع دائرة حريات المرأة هو القوة الدافعة وراء نشأة تلك المجموعات، ولم يغفل التاريخ عن ذكر الأمريكية هانا ماثر كروكر، التى أسست دائرة القراءة فى بوسطن فى القرن الثامن عشر، ودعت لمشاركة المرأة فى الماسونية، كما كتبت أطروحة بعنوان «ملاحظات حول الحقوق الحقيقية للمرأة».
وشجعت الأوساط الأدبية النساء ليس فقط على القراءة ولكن أيضا على التحدث والنقد وحتى الكتابة، فعلى سبيل المثال؛ وثقت الشاعرة ميلكا مارثا مور فى ستينيات القرن الثامن عشر القصائد والأبيات النثرية التى قام بتأليفها مجموعة من المشاركات فى دائرتها الأدبية، وقامت جمعت ما يقرب من 100 مخطوطة، ثم توسعت دوائر القراءة وتخطت حدود العِرق والطبقة؛ فشكلت مجموعة من النساء السمراوات فى ولاية «ماساتشوستس» واحدة من أولى مجموعات القراءة للنساء السمراوات عام 1827.
وقالت أستاذة التاريخ الفكرى الأمريكى فى جامعة ميتشيجان، مارى كيلى، إنه مع بداية الحرب الأهلية كان لدى كل بلدة وقرية تقريبا فى الولايات المتحدة نوع من المجموعات الأدبية النسائية، وطوال القرن التاسع عشر، توسعت دوائر القراءة النسائية، وأصبح البعض يدلى برأيه فى القضايا الاجتماعية مثل إلغاء العبودية، مما أدى إلى تنشيط الحركة الثقافية فى هذا القرن.
ومع بدايات القرن العشرين، استمرت نوادى الكتاب فى لعب دورها المزدوج: العمل كمنفذ فكرى للنساء وأداة سياسية راديكالية مؤثرة فى المجتمع، واستطاعت النساء الوصول إلى الكتب بشكل أفضل، ويرجع الفضل فى ذلك جزئيا إلى ظهور الكتب ذات الأغلفة الورقية والطلبات عبر البريد فى الأسواق، نقلا عن صحيفة «الواشنطن بوست».
وشكل النصف الأول من القرن العشرين ذروة الحراك الثقافى لا سيما مع نشأة «نادى كتاب الشهر» عام 1926، وهو خدمة اشتراك مكتبية فى الولايات المتحدة تقدم مجموعة مختارة من خمسة كتب جديدة للقراءة كل شهر لأعضائها و«حركة الكتب العظيمة» التى ساهمت فى ضم أيقونات الأعمال الأدبية للمناهج الدراسية على مستوى المدارس والجامعات، وكلاهما شكل حافزا للشخص الأمريكى العادى لقراءة الأعمال الأدبية الضخمة، وعلى الرغم من استمرار منع النساء من الالتحاق بالعديد من الجامعات الكبيرة آنذاك، إلا أن ذلك لم يقلل حماسهن المُتقد لقراءة الكتب.
وقد تغير دور نوادى القراءة جذريا عند بدأ قبول النساء فى مؤسسات التعليم العالى بشكل جماعى فى ستينيات القرن الماضى؛ حيث تغيرت دوافع النساء للانضمام إلى نوادى الكتاب من تعويض التعليم الذى حُرمن منه، إلى توسيع نطاق المتعة التى يتحصلن عليها من الدراسة فى الجامعة، وبالرغم من ضيق وقت النساء بشكل عام نظرا لالتزاماتهن المتعددة فى العمل ورعاية الأطفال، تواصل ملايين الأمريكيات الانضمام لنوادى الكتاب، وتشكل نسبتهن حتى الآن نحو 88% من المشاركين فى نوادى الكتاب الخاصة.
وخلال العصر الحديث، قادت المذيعة الأمريكية أوبرا وينفرى نوادى الكتب نحو منعطف جديد مع ظهور أول نادى كتاب خاص بها عام 1996، والذى يعد نقطة تحول فى تاريخ نوادى القراءة، وقد وصفه المؤلف تونى موريسون بـ«ثورة القراءة»، وقد ساهم نادى كتاب «أوبرا» فى زيادة مبيعات الكتب التى وقع اختيارها عليها بمتوسط 1.4 مليون نسخة لكل كتاب، وقد ضم النادى أعمال أدبية مميزة لكُتاب عالميين مثل ليو تولستوىو ويليام فولكنرو مايا أنجيلو.
وقد صرحت «وينفرى» لمجلة لايف عام 1997: «إن الالتحاق بنادى الكتاب الذى أسسته هو بمثابة المواطنة بالنسبة لى»، وأضافت: «كانت القراءة الشىء الوحيد الذى منحنى الشعور بالقيمة وبتقدير الذات».
وقالت عالمة الاجتماع التى تبحث فى أسباب نشأة نوادى الكتاب النسائية، كريستى كريج، إن النساء يلجأن إلى نوادى الكتب فى الأوقات الصعبة، كوسيلة للبحث عن الحكمة وسط صفحات الكتب والمؤازرة المتبادلة، وقد اعتمدت النساء على نوادى الكتب فى لحظات محورية فى الحياة، مثل ما بعد الكلية أو بعد الطلاق أو وفاة الزوج أو بعد مغادرة الأطفال للمنزل والخضوع للعلاج الكيميائى.
وحتى خلال الأوقات العصيبة الحالية وتفشى وباء كورونا حول العالم، لايزال الدور المحورى لنوادى القراءة قائما؛ حيث تلتقى نوادى الكتب عبر الإنترنت والتى يبحث القُراء من خلالها عن بناء علاقة حميمة تتخطى حدود المسافات والحظر، ويسعون لبناء مجتمع حقيقى.