القصور التاريخية في مصر ليست مجرد أمكنة وجدران وشوارع، إنما هي تاريخ لا يزال حيا، سجل يُخلد أسماء وشخوصا وأحداثا، رمز لنمط عمارة ساد، وظروف عصر خال، وثقافة مجتمع تقلبت عليها السنوات، لكنها ظلت تحمل شيئا من توقيعه، لا يزال محفورا في ومضة هنا أو أخرى هناك.
تلك القصور ما هي إلا تاريخ لم تطوه كتب أو مجلدات، فلا يزال حيا نابضا يثبت أنه أقوى من كل محاولات العبث التي بدأت بعشوائية المصادرات ومحو أسماء أصحاب القصور من فوق قصورهم، ولافتات الشوارع التي حملت يوما أسماءهم تخليدا لدور قدموه للوطن أو خدمة جليلة قاموا بها لنهضة مجتمعهم.
في سلسلة "قصور منسية" تستعرض "الشروق" خلال شهر رمضان الكريم، قصصا لقصور مصر المنسية، استنادا إلى كتاب "قصور مصر" الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، للباحثة سهير عبدالحميد، والذي يتناول قصص وحكايات وراء أشهر القصور المصرية.
قصر الزعفران.. هدية الخديو إسماعيل للوالدة باشا
هذا القصر الذي أراده إسماعيل على غرار قصر فرساي، الذي أقام به فترة تعليمه في فرنسا ثم أهداه إلى الوالدة باشا كي تمتع رئتاها بهواء الحي البكر.
وفي حديقة القصر التي تمتد على مساحة مائة فدان زرع نبات الزعفران لتستنشق خوشيار هانم عطره الزكي ولكن بقدرة الله سبحانه الذي يغير ولا يتغير؛ تخرج الوالدة المدللة مطرودة على يد حفيدها الخديو توفيق ومخدوميه الضباط الإنجليز الذين أرادوه محلا لإقامتهم فشوهوا زخارفه، وأساؤوا إلى نقوشه قبل أن يغادروه ليصبح مدرسة ثانوية ثم مقًّرا لجامعة فؤاد الأول فبيتًا لضيافة زوار مصر الأجانب، وأخيًرا تستقر فيه ثالث جامعة مصرية وأول جامعة تقام إثر مظاهرات طلابية جامعة إبراهيم باشا، التي أضحت جامعة عين شمس، نسبة إلى هذه البقعة، التي احتضن ثراها منذ قرون جامعة أون، أول شعاع للعلم والمعرفة في العالم، والتي من رحابها خرج أساطير الفكر اليوناني أرسطو وطاليس وغيرهما.
قصر الزعفران
لا يزال قصر الزعفران يحفظ أناقته المعهودة في ستائره التي نسجت بدقة، وطرزت بعناية ألوانها، ولا تزال زاهية، والعامل يحرص على تنظيفها وإعادتها إلى شبابيك القصر الكبيرة التي تتناسب مع ارتفاعات الأسقف التي تصل إلى 6 أمتار ليكون ذلك الفراغ وسيلة طبيعية للتكييف.
إدارة الجامعة حريصة على كل ركن من أركان القصر، فبدا وكأنه قد بني بالأمس بطرازه المزيج بين القوطي والباروك الذي يميز قصور القرن الـ 19، وحديقته الشتوية الموجودة بداخله، والتي خصصت للاستمتاع بمنظر الزهور في فصل الشتاء في حالة البرد القارس، الذي لا يتمكن معه المرء من الخروج إلى حديقة القصر، ولا تزال شتلاتها تتجدد تلقائيًّا، ومصابيح الإضاءة التي بدت وهي تخرج على استحياء من بين زخارف نباتية جصية وكأنها أرادت الاختباء لتبدو كأنها مجرد أفرع نباتية لا تكشفها سوى عين فاحصة.
والزجاج البلوري المعشق بألوان زاهية فوق السلم النحاسي الفريد يعكس ألوان السماء الساطعة التي اتخذته أسقف القصر؛ فبدت للرائي من بعيد أسطحا مفتوحة تنبعث من فوهتها صورة السماء، والثريات الفخمة والزخارف المنمنمة ومدفأة خشبية هنا أو هناك، ولوحات زيتية تطل على المكان منذ سنوات.
على أنقاض قصر الحصوة
بني القصر على أنقاض قصر «الحصوة» وهو الاسم نفسه الذي كان يسمى به الحي، الذي يوجد به والذي أضحى يعرف بالعباسية.
كان قصر الحصوة يتألف من خمس بنايات، واكتسب اسمه من الحي الصحراوي المليء بالحصى الذي يوجد به، وفي عام 1851م أصدر عباس باشا الأول فرمانًا بتعمير تلك المنطقة، ونسبها إليه لينشأ الحي الجديد «العباسية».
وفي عام 1864م اشترى الخديو إسماعيل قصر الحصوة بمبلغ 2500 جنيه لينشئ قصره الجديد قصر الزعفران الذي عرف بذلك نسبة إلى نبات الزعفران طيب الرائحة الذي لا يزال موجودا حتى الآن ليظل القصر اسًما على مسمى.
عهِد الخديو إسماعيل آنذاك إلى المهندس مغربي بك سعد، وكيل وزارة الأوقاف، بتصميم قصر الزعفران، والإشراف على بنائه؛ حيث كان ضمن البعثة الهندسية التي أوفدها الخديو إلى فرنسا.
ولأن الخديو إسماعيل كان مولعًا بالفنون حتى ازدهرت القاهرة في عهده بقصور بديعة يغنينا عن وصفها قصر عابدين، فقد كان ينفق بسخاء على تنسيق قصوره؛ لذا أمر أن يبنى قصر الزعفران على غرار قصر فرساي بفرنسا الذي قضى فيه الخديو إسماعيل فترة تعليمه، وقد طلب الخديو نقش الأحرف الأولى من اسمه وتاجه الخاص على بوابة القصر الحديدية ومداخل القاعات والغرف.
وفي عام 1872م أهدى إسماعيل القصر لوالدته المريضة السيدة خوشيار هانم التي أمرت ببناء مسجد الرفاعي الموجود أمام مدرسة السلطان حسن في حي القلعة ليمثلا معًا بانوراما معمارية رائعة. ويقال إنها شيدته تقديًرا لكرامات الرفاعية التي تباهت بها الأسرة العلوية أمام القناصل الأجانب.
واشترت الوالدة باشا، أرض مسجد الذخيرة وزاوية الرفاعي المواجهة لمسجد السلطان حسن، وأمرت بإقامة ضريح لأبي شباك حفيد الرفاعي الكبير، وبناء مدافن لمن يموت من ذريتها، وأن يقام في الموقع مسجد لإقامة الصلاة، بل يُروى أن زوجة الخديو عباس حلمي الثاني لدغها ثعبان ولم تشف إلا على يد شيخ الرفاعية.