من يلوم الضحية يدافع عن المعتدى بداخله
عقليتنا المجتمعية والثقافية تحتاج لإعادة ضبط المصنع لنعود لفطرتها الحقيقية
نحتاج إلى «فرمتة أمخاخ» أجيال كاملة ورثت وتورث بعض العقد والكلاكيع النفسية والمجتمعية
متلازمة ستوكهولم توضح لماذا تدافع بعض السيدات عن التحرش وتلوم الضحية
الكلام عن الكبت الجنسى وتأخر سن الزواج من أسباب الاغتصاب غير صحيح «وإلا ماكناش شوفنا اغتصاب للأطفال»
المرض النفسى لا ينفى المسئولية القانونية عن المتحرش أو المغتصب إلا فى حالات نادرة للغاية
الرجولة غير الذكورة والأنثى ليست أداة جنسية والجسد ليس هدفا جنسيا والجمال ليس مجرد جنس والجنس نفسه ليس فعلا جنسيا فقط
هنا المنطق لا يتحكم، والعقل يتعطل، والحق يبتعد، نتيجة تشوهات مجتمعية أن المغتصب «عنتيل»، وأن المغتصبة هى السبب، أو عبر مقولات غير منطقية وغير إنسانية» إيه اللى لبسها كده.. أو وداها هناك؟
الدكتور محمد طه الطبيب النفسى المعروف يرى أن الذى يلوم الضحية، يدافع عن المعتدى الذى بداخله والذى يجادل ويناطح فى بديهيات إنسانية بحتة، أصبح متجردا من كل إنسانية (كانت) داخله.
لكن الغريب والمدهش هو موقف السيدات فى الدفاع عن المتحرش أو المغتصب ولوم الضحية إلا أن عقدة ستوكهولم فيها تفسير واضح لماذا بعض السيدات يدافعن عن التحرش والاغتصاب، تلك العقدة التى شرحها دكتور محمد طه فى حواره مع الشروق حول ظاهرة التحرش والالتباس الحادث حوله، رغم أنه يبدو أمرا شديد الوضوح.
دكتور محمد طه، طبيب وكاتب مصرى، أستاذ مساعد الطب النفسى بكلية الطب جامعة المنيا، وأستاذ العلاج النفسى فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ونائب رئيس الجمعية المصرية للعلاج النفسى الجمعى (سابقا)، ساهم فى خلق حالة عامة من الوعى النفسى فى مصر والوطن العربى، من خلال كتاباته المبسطة والعميقة فى نفس الوقت، دون أن تفقد رسالته علميتها ووقارها، وجذبت كتبه ومقالاته جمهورا عريضا، وتصدرت أعماله قائمة الأكثر مبيعا فى المكتبات ودور النشر منذ صدورها وحتى الآن.
ومن تلك المؤلفات الخروج عن النص (2016)، علاقات خطرة (2017)، لا بطعم الفلامنكو (2019)، وله العديد من الأبحاث والكتب والمقالات المنشورة باللغة الإنجليزية محليا وعالميا.
> قبل أيام بدأنا نرى تحركات مهمة ونوعية من النيابة لتشجيع الفتيات والسيدات على تقديم البلاغات ضد المتحرشين. وقبل أيام قال البرلمان إنه سيصدر قانونا لحماية خصوصية المتعرضات للتحرش.. فهل نحن بصدد تغير نوعى فى نظرة الدولة والمجتمع للظاهرة؟
نحن فى مرحلة تغير حقيقى ونوعى على عدة مستويات، توجد بدايات تغير فى علاقتنا بالآخر، وتغير مضطرد فى علاقة المجتمع بالمرأة وحقوقها، وأيضا يوجد تغير فى اتجاه فهم أعمق للنصوص المقدسة بما يناسب ظروف العصر. التغير الحاصل فى نظرة الدولة والمجتمع لظاهرة التحرش هو جزء لا يتجزأ من هذا التغير الشامل على كل تلك المستويات.
> فى كتاب (لا بطعم الفلامنكو) ذكرت تعليقات كثيرة تطلقها سيدات تبرر فعل التحرش مثل اللبس و«إيه اللى وداها هناك» أليس من الغريب أن نجد مثل هذه التعليقات من سيدات؟!
سنة 1973، وقعت حادثة سرقة بنك كبير فى مدينة ستوكهولم بالسويد، وخلال فترة التفاوض مع السلطات، احتجز المجرمون عددا من الموظفين بالبنك كرهائن لمدة ستة أيام، وخلال تلك الفترة، حصلت حاجة غريبة جدا، و«مالهاش تفسير واضح ومحدد لغاية النهارده»، إذ إن الرهائن أصبحوا متعلقين عاطفيا بالخاطفين، تعاطفوا معهم وأحبوهم، لدرجة أنهم رفضوا مساعدة المسئولين، ليس هذا فقط بل دافعوا عن الخاطفين بعد انتهاء الأزمة، ومن وقتها، تم تسمية تلك الحالة بـ (متلازمة ستوكهولم)، والدراسات والأبحاث التى أجريت عليها بعد ذلك وجدت أنها تحدث للسيدات أكثر من الرجال، وأنا أحيانا لا أستطيع فهم موقف بعض السيدات من حوادث التحرش والاغتصاب إلا من خلال هذا التفسير.
متلازمة ستوكهولم باختصار هى أن الضحية تتماهى مع الجانى، المظلومة (أو المظلوم) تتعاطف مع الذى ظلمها، تؤمن بنفس أفكاره وتصير فى صفه، تؤازره وتقف إلى جانبه.. وفى أحيان كثيرة، تكون أشد وأصعب منه، مثلا.. هذه ردود أفعال بعض السيدات فى إحدى جروبات السوشيال ميديا لما واحدة منهم سألت:
فى حالة ضرب الزوج لزوجته، إيه الإجراء القانونى اللى يتخذ علشان تجيب حقها؟
ــ أختى الكريمة.. استهدى بالله وافتكرى الحاجات الكويسة اللى عملها ليكى ولأولادك، وقدرى ظروف زوجك، يمكن عمل كده لضغط منك أو استفزاز.. ما هو انتى مش ملاك برىء قاعد قدامه، أكيد عندك أخطاء.
ــ واضح جدا من البوست بتاعك إنك من النوع الراس بالراس واضربه زى ما ضربنى.. الله أعلم بحالكم، لكن حكمى عقلك واعملى مقارنة بين مزاياه وعيوبه ومزاياكى وعيوبك، واسترى بيتك هتكونى عنده حورية من الجنة.
ــ لو اتضربتى من غير سبب تروحى بيت أبوكى تقعدى شوية لما أعصابك تهدى، لو حس إنه غلطان وجه يصالحك روحى معاه ومتكبريش الموضوع.
ــ تدعيله بالهداية، وما تسمعيش كلام حد.
ــ ما تسمعيش كلامهم والله هايطلقوكى ومحدش فيهم هاينفعك، ارجعى لجوزك أفضل.
ــ روحى راضى جوزك وصالحيه، وخليه يوعدك إنه ما يضربكيش تانى.. وما صبرك إلا بالله، وحافظى على بيتك.
هذه الحكاية تفسر لماذا بعض السيدات فى مجتمعنا تصبحن أكثر قسوة على ذاتهن وعلى الإناث بشكل عام من الذكور أنفسهم، لدرجة أنهن تبررن للرجال كل الأفعال التى يمارسونها ضدهن شخصيا، وتدافعن عن ظلم الذكور وقهرهم للإناث بشكل غريب وغير منطقى. تتهمن بنى جنسهن بالعهر والفجور، وأحيانا بالكفر، عند محاولة قول (لأ) للذكور.. تطلبن منهن الخضوع للمنظومة الذكورية الفاشلة بلا أى عقل.. وأى واحدة تخرج عن هذا المألوف، وتحاول تعقل أو تفهم تنهال عليها الاتهامات والشتائم. وكأنها خرجت من الملة.. لأ.. «دول بيخرجوها من الملة فعلا».
ونظرة سريعة على جروبات السيدات على مواقع السوشيال ميديا ستتعرف على التشويه الذى حدث للسيدات أكثر بكثير مما حدث للرجال.
> هل هناك سوء فهم أو عدم إدراك كامل لمفهوم التحرش؟ وهل للتحرش ضوابط ومحددات؟ وما أشكاله؟ وهل هناك سلوك ما نمارسه ولا ندرك أنه تحرش؟
ــ مهم جدا نتعرف على التعريف العلمى الصحيح للتحرش الجنسى ــ وهو أى صيغة من الكلمات أو الأفعال أو السلوكيات غير المرغوب فيها أو ذات الطابع الجنسى والتى تنتهك خصوصية أو مشاعر أو جسد شخص ما، وتجعله يشعر بعدم الارتياح، أو التهديد، أو عدم الأمان، أو الخوف، أو عدم الاحترام، أو الترويع، أو الإهانة، أو الإساءة، أو الترهيب، أو الانتهاك، وقد يشمل الأشخاص من نفس الجنس فى بعض الأحيان.
والتحرش له أشكال، وممكن يأخذ أكثر من شكل فى نفس الوقت (وهذا كلام علمى موثق.. وأنواع التحرش موجودة بالتفصيل على موقع خريطة التحرش)، وهى:
ــ النظر المتفحص: التحديق أو النظر بشكل غير لائق إلى جسم شخص ما أو أجزاء من جسمه.
ــ تعبيرات الوجه: عمل أى نوع من التعبيرات الوجهية التى تحمل رسالة أو دعوة أو اقتراحا ذا طبيعة جنسية.
ــ الهتاف: التصفير، الصراخ، الهمس، وأى نوع من الأصوات ذات الإيحاءات الجنسية.
ــ التعليقات: إبداء ملاحظات جنسية عن جسد شخص، أو ملابسه أو طريقة مشيه، إلقاء النكات أو الحكايات الجنسية.
ــ الملاحقة: تتبع شخص ما، أو انتظاره خارج منزله / مكان عمله / نادى / .......
ــ الدعوة لممارسة الجنس: طلب ممارسة الجنس دون موافقة، طرح مطالب جنسية مقابل أداء أعمال، تقديم الهدايا بمصاحبة إيحاءات جنسية، وصف الممارسات الجنسية أو التخيلات الجنسية، طلب رقم الهاتف رغم الرفض، توجيه دعوات أو اقتراحات أخرى قد تحمل طابعا جنسيا بشكل ضمنى أو علنى.
ــ الاهتمام غير المرغوب به: السعى لاتصال غير مرحب به، الإلحاح فى طلب التعارف والاختلاط، الإصرار على المشى مع الشخص أو إيصاله بالسيارة إلى منزله أو عمله على الرغم من رفضه.
ــ الصور الجنسية: عرض صور جنسية سواء عبر الإنترنت أو بشكل فعلى.
ــ التحرش عبر الإنترنت: القيام بإرسال تعليقات أو رسائل أو صور أو فيديوهات غير المرغوبة أو المسيئة أو غير اللائقة عبر الإيميل، الماسنجر، وسائل التواصل الاجتماعى، المنتديات، المدونات أو مواقع الحوار عبر الإنترنت.
ــ المكالمات الهاتفية: عمل مكالمات هاتفية أو إرسال رسائل نصية تحمل اقتراحات أو تهديدات جنسية.
ــ اللمس: اللمس، التحسس، النغز، الحك، الاقتراب بشكل كبير، الإمساك، الشد وأى نوع من الإشارات الجنسية غير المرغوب بها.
ــ التعرى: إظهار أجزاء حميمة أمام شخص ما أو فى وجود شخص ما دون رغبته.
ــ التهديد والترهيب: التهديد بأى نوع من أنوع التحرش الجنسى أو الاعتداء الجنسى بما فيه التهديد بالاغتصاب.
ــ التحرش الجنسى الجماعى: تحرش جنسى (شامل أحد الأشكال السابقة) يرتكبها مجموعة كبيرة من الأشخاص تجاه فرد أو عدة أفراد.
ومهم نعرف إن التحرش ممكن يحصل فى أى مكان ومن أى شخص.
> هل الاغتصاب شكل متقدم من التحرش؟ وهل الاغتصاب جريمة جنسية أم جريمة عنف؟
ــ هناك فرق بين ثلاثة أمور: التحرش الجنسى، الاعتداء الجنسى، والاغتصاب.
ــ التحرش الجنسى: وهذا ذكرناه من قبل.
ــ الاعتداء الجنسى: وهو القيام بأفعال جنسية تجاه شخص ما بالإكراه أو بالإجبار مثل التقبيل القسرى والتعرية.
ــ الاغتصاب: وهو استخدام أجزاء الجسم أو غيرها من الأشياء والأدوات لاختراق الفم، أو اختراق الشرج، أو المهبل بالإكراه أو الإجبار.
والثلاثة أمور فى الحقيقة هى صور مختلفة من العنف الجنسى، لكنها تختلف فى الدرجة والشدة.
> هل صحيح الكلام الذى يقال عن الكبت الجنسى وتأخر سن الزواج وما إلى ذلك من أسباب التحرش والاغتصاب؟
ــ غير صحيح طبعا، و«إلا ماكناش شوفنا تحرش» واغتصاب للأطفال، وللمحجبات والمنتقبات، وللذكور والإناث. فى رأيى أنه يجب أن نسأل أنفسنا سؤالا بسيطا جدا: لوهذا المتحرش فى شوراع أى دولة أجنبية، وهو أيضا مكبوت جنسيا ومتأخر فى الزواج، هل سيجرؤ على أن يتحرش أو يغتصب أى واحدة لابسة أو حتى عارية فى الشارع؟ الإجابة أكيد ستكون لأ. لذلك أرى أن السبب الحقيقى، والذى يخفيه كل الذين يدافعون عن التحرش هو عدم خوف المتحرش / المغتصب من الرفض (الأهل، الأصحاب،....)، والعقاب (القانونى)، والنبذ (المجتمعى). ولذلك أنا مقدر ومحترم جدا الخطوات الحازمة والحاسمة التى تتخذها الدولة حاليا فى فرض هيبتها وتثبيت دعائمها فى الشارع وبين الناس. فى صورة تطبيق فورى وحازم للقانون من جانب الجهات التنفيذية، وسن قوانين جديدة من جانب الجهات التشريعية. ووجود نائب عام واعٍ ومحترم وعند مستوى الحدث بشكل مسئول ومبهر.
> ولماذا يلوم المجتمع الضحية الذى يمكن أن يكون طفلا أو طفلة؟
ــ من أكثر الأمور المزعجة والمؤلمة فى قضايا التحرش والاغتصاب، هى اتجاه البعض (وهم كثيرين ذكورا وإناثا) إلى لوم الضحية. وتحميلها مسئولية ما حدث لها. هذا يقول:«إيه اللى وداها هناك؟»، وذلك يقول «هى تستاهل»، وآخر يقول: «لبسها بيستفز ذكورتى»، رغم أن الأطفال يغتصبون، وكذلك الأولاد ــ وليس البنات فقط ــ ورغم أن الحجاب والنقاب واللبس الواسع لا يمنع التحرش، وأن أكثر من 90% من بنات وسيدات مصر تعرضن لشكل من أشكال التحرش رغم أن الغالبية العظمى منهن محجبات ويلبسن لبسا غير مغرٍ أو مثير.
ودعنى أقول لك لماذا بعض الناس يلومون الضحية:
ــ الضحية يتم لومها أولا؛ لأنها الطرف الأضعف فى المعادلة. الطرف الذى فقد أسلحته ومواطن قوته. الطرف الذى «خلاص وقع على الأرض»، ولدينا مثل شهير يقول: «العجل وقع.. هاتوله السكينة»، أى طالما وقعت الضحية على الأرض. وهذا بالطبع يتكرر فى سياقات ومناسبات كثيرة جدا.
ــ لوم الضحية يجعل الناس (اللى بتعمل كده) تخلى مسئوليتها، وتبرئ ذمتها، وتعفى نفسها من مواجهة نفسها، أى أنت المسئولة وليس أنا. حالة طفولية جدا من الإنكار. إنكار دورى فيما حدث.. إنكار مسئوليتى عنه. وإنكار مسئوليتى عن تغييره.
ــ الحاجة الثالثة هى حيلة دفاعية نفسية اسمها (الإسقاط)، فبدلا من القول إنك تريد التحرش، تقول إن البنات لبسهن يدعو للتحرش، و«بدل ما تقول أنا عاوز أغتصب أنثى.. تقول هى اللى بتثيرنى لاغتصابها.. بدل ما تقول (أنا).. تقول (أنتِ).. تسقط فشلك وسفالتك على من أمامك».
ــ لوم الضحية يضعك فى خانة الواعظ.. الحكيم.. الممسك بميزان العقل والموزع لصكوك البراءة هنا.. وصحف التهم هناك.. لوم الضحية يضعك فى موقف الحكم.. يجعلك تخرج خارج ساحة الجدال، ينقلك من مربع المتهم أو المسئول أو المشارك إلى مربع العاقل الشاطر الفاهم الموزون.
ــ لوم الضحية يحسس صاحبه بالغرور، مشيرا بإصبعه ويقول: «أنت صح.. أنتِ غلط.. مش قولتلكم.. افهموا بقى».
ــ وأخيرا.. لوم الضحية يجمع حولك الناس (اللى هما طبعا شبهك).. الناس التى لا تريد المعرفة أو تحمل المسئولية.. وهؤلاء كثيرون جدا.. فتصبح أنت البطل لهم، الذى يقدم لهم على طبق من ذهب شهادات براءتهم وحسن سيرهم، البنت هى السيئة وتستحق ذلك بل وتريده.
الذى يلوم الضحية، يدافع عن المعتدى بداخله. والذى يجادل ويناطح فى بديهيات إنسانية بحتة، أصبح متجردا من كل إنسانية (كانت) داخله.
> هل على المتحرش زيارة طبيب نفسى؟
ــ أولا هناك فرق كبير بين شخص مريض نفسى، وشخص غير سوى نفسيا، ولكى أقول إن هذا مرض نفسى يجب أن تتوفر فيه خصائص ومحددات (معينة) لفترة زمنية (معينة) وتكون مصحوبة عادة بتأخر أو تعطل فى الجوانب المختلفة لحياة المريض (الوظيفة، العلاقات..)، أما الشخص التى تركيبته النفسية بها مشاكل، والمصاب باضطراب فى السلوك أو طريقة التعامل أو الشخصية، فهذا ليس بالضرورة يتم تصنيفه على أنه مريض نفسى، ممكن نطلق عليه شخص (سيئ السلوك).. أو شخص (غير سوى).. أو شخص (مؤذٍ).
ثانيا.. فيه بعض الاضطرابات النفسية تكون من ضمن أعراضها التلاعب بمشاعر الآخرين وإيذائهم نفسيا أو بدنيا، أشهر هذه الاضطرابات اضطراب الشخصية النرجسية واضطراب الشخصية الحدية واضطراب الشخصية السيكوباتية، وهذه من أصعب الاضطرابات النفسية تشخيصا، وعلاجا.
ثالثا وهو الأهم: المرض النفسى لا ينفى المسئولية القانونية إلا فى حالات نادرة للغاية، وهى الحالات التى يكون فيها المريض ليس فى وعيه، عند ارتكابه الفعل أو الجريمة، مهما كان تشخيصه. لهذا المدمن مسئول أمام القانون، والقاتل حتى لو كان مريضا نفسيا (باستثناءات قليلة) أيضا مسئول أمام القانون، ولا يمكن اعفاء أى مريض نفسى من المسئولية القانونية إلا بعد عمل مقابلات تشخيصية معقدة جدا، وحجزه بمستشفى نفسى وإخضاعه لملاحظة طبية ونفسية دقيقة للغاية، وإجراء العديد من الاختبارات للوقوف على درجة وعيه ومدى مسئوليته عما فعل فى لحظة الفعل نفسها.
فى كل الأحوال.. لو توفرت بعض الأعراض والمحددات فى هذا الشخص، فيجب عرضه على طبيب نفسى، وذلك لا يمنع أبدا مسئوليته القانونية.
> كل التشوهات النفسية والعقلية التى نراها تحيط بظواهر مثل التحرش ووقائع مثل الاغتصاب ما سببها؟ هل المجتمع أم هل الخطاب الدينى أم هل تقصير فى مناهج التعليم؟
ــ باختصار شديد، سببها كل هذا. كلنا مشاركون وكلنا مسئولون بدرجة أو بأخرى.. و«كل دول بيمثلوا مصادر معرفية مختلفة تصب فى الآخر فى أدمغة وعقول ونفوس أولادنا وبناتنا».. كيف؟
«نأتى بولد، ونوصل له من خلال التربية والمجتمع والفهم المغلوط والمختزل للدين إن الرجولة عضلات وقوة وفحولة جنسية، وإن «الصياعة وتعليق البنات والمشى معاهم» شىء عادى، بل ومقبول وأحيانا مطلوب ومرحب به، بالنسبة لكونه ولدا، وأن الرجل كائن أسمى وأعلى من المرأة، وأن البنت عبر لبسها وصوتها و«مشيتها» هى المسئولة عن فتنته وإثارته واستفزاز هرموناته وإخراجه عن شعوره، و«نأتى ببنت، ونوصل لها أن الأنوثة ضعف وخضوع وصوت واطى»، وإن وجودها عار وذنب ومشروع فضيحة يجب أن (بالتعبير الشعبى تتستر بالجواز)، وأن جسمها هو سبب الفتنة والإثارة، وإن معنى إن حد يعاكسها أو يتحرش بها أنها أكيد فيها «حاجة غلط خلته يعمل كده». ضع كل هذا فى ثقافة تختزل معنى شرف الرجل فى (فرج المرأة)، وترى أن (الراجل مايعيبهوش غير جيبه)، وأن البنت والمرأة والسيدة لازم يكونوا تحت الوصاية والمراقبة والتقييم (الذكورى) أولا بأول، وعقل جمعى يحتوى على موروثات مثل (شورة المرة تجيب لورا) .. (واكسر للبنت ضلع يطلعلها أربعة وعشرين).. ماذا سنخرج بكل هذا فى النهاية؟
سينتج عن ذلك أناس تسمى المغتصب (كما ذكر فى الجرائد فى بعض الحوادث سابقا) عنتيل (لفظ يفخر بالفحولة).. وتسأل المغتصبة (هى إيه اللى لابساه ده؟ هى إيه اللى وداها هناك؟)، وسينتج أجيال كاملة من الشباب الفخور بمجرد كونه ذكرا، وأجيال كاملة من الشابات الشاعرة بالدونية لمجرد كونها أنثى.. وأولاد (بغض النظر عن مستواهم الاجتماعى) يتم تربيتهم على الصوت العالى.. والسلوك العنيف.. والصفاقة الجنسية.
وبنات (برضه بغض النظر عن مستواهن الاجتماعى) مجبولات على الصمت والخوف و(بلع التحرش) والإهانة الجسدية التى تتعرض لها كل يوم فى كل سياق تقريبا، هذه هى الأسباب وتلك هى النتائج.
> إذن كيف نشجع وندعم المعتدى عليهم؟ هل بالمصارحة والمواجهة ومحاولة أخذ حقوقهم وعدم الصمت والشعور بالخذى والعار؟
ــ دعم المعتدى عليهم فى حوادث التحرش والاغتصاب له استراتيجية معينة ومعروفة ومثبتة علميا، وتمارس فى كل الأماكن المتخصصة.. وهناك بعض المتخصصين فى ذلك:
أولا: دعم قانونى وحقوقى، وترى بعينيها أن المتحرش أو المغتصب يتحاكم ويعاقب.
ثانيا: دعم اجتماعى، من الأسرة والأصدقاء والمجتمع ككل، لا يجب وصمها ولا لومها، ولا إشعارها بالذنب. بالعكس، نقف جنبها ونحتويها لغاية ما تعدى أزمتها بسلام.
ثالثا: دعم نفسى، وهذا مهم جدا، خاصة أن كثيرا من ضحايا التحرش والاغتصاب يصابون بأعراض نفسية بعدها مثل اضطراب ما بعد الصدمة، واكتئاب، وتوتر، واضطرابات فى النوم، ومشاكل فى الثقة بالنفس. وذلك يكون من خلال برامج وجلسات علاج نفسى مكثفة، وأحيانا مع اللجوء لبعض الأدوية والمتابعة.
> كيف تتعامل كطبيب نفسى مع حالة معتدى عليها فى تحرش أو اغتصاب؟
أصعب شعور ممكن أن تشعر به من تتعرض لأى اعتداء جنسى هو الشعور بالعجز Helplessness، ثم الشعور بالذنب. وأهم ما يقدمه الطبيب النفسى لمثل هذه الحالة هو أولا القبول والتفهم وعدم الحكم.. وثانيا مساعدة الضحية فى قبول شعورها الطبيعى والمنطقى بالعجز وقت تعرضها للعدوان، وكذلك التخلص من أى شعور بالذنب قد ينمو داخلها بعده.
يتم بعد ذلك استخدام طرق وتقنيات خاصة للعلاج. وفيه طرق علاجية كاملة لعلاج الصدمات النفسية الناتجة عن العنف والعدوان الجنسى، أشهرها EMDR (إبطال الحساسية وإعادة المعالجة عبر حركة العينين)، وCBT العلاج السلوكى المعرفى والعلاج النفسى الداعم Supportive Psychotherapy، وطبعا يكون مهم توعية الأهل وتعليمهم طرق دعم الضحية ومساعدتها واحتواءها بكل السبل المتاحة.
> وما الحلول التى يمكن من خلالها مواجهة التحرش؟ هل الحلول داخلية من الإنسان نفسه أم خارجية بقوة القانون أو بقوة الدين؟
ــ لن أقسم الحلول إلى حلول داخلية وحلول خارجية، لكنى سأقسمها لحلول سريعة وحلول طويلة المدى. الحلول السريعة والتى يمكن تنفيذها ــ وبدأ تنفيذها بالفعل ــ هى تنفيذ القانون وتطبيقه بكل حسم وحزم. «مافيش هزار.. مافيش تهاون»، فالتحرش جريمة يجب معاقبة صاحبها فورا، والاغتصاب جريمة يجب معاقبة صاحبها فورا. العدالة الناجزة فى هذه الأمور تقطعها قطعا.
أما حلول طويلة المدى، فهى التوعية.. التوعية.. التوعية. نحتاج إلى توعية نفسية تصل لكل بيت، ومدرسة، وجامع، وكنيسة، ونادى، وكافيه أو قهوة. ونحتاج لإعادة ضبط المصنع لعقليتنا المجتمعية والثقافية إلى فطرتها الحقيقية غير المشوهة، نحتاج إلى «فرمتة أمخاخ» أجيال كاملة ورثت وتورث بعض (العقد والكلاكيع النفسية والمجتمعية)، نحتاج لإعادة تعريف، وإعادة رؤية أن الرجولة غير الذكورة. وأن الأنثى ليست أداة جنسية، وأن الجسد ليس هدفا جنسيا، وأن (الجنس نفسه مش شىء جنسى وبس.. آه والله العظيم)، الجنس لو تم اختزاله فى فعل الجنس نفسه، لفقد أهم ما فيه، وهو التواصل النفسى والجسمانى والروحى لأعمق درجات الوجود، لهذا توجد صلاة قبل الجماع.. ودعاء قبل وبعد الجماع.. واحترام وإجلال حقيقى لهذا الفعل الإنسانى المقدس، الذى ــ وبكل أسف ــ قمنا «باختزاله وتشويهه وتقذيره ومومسته» إلى أقصى حد، بعدما اختزلنا الرجولة فى الجنس. والأنوثة فى الجنس. والحب فى الجنس.