كانت عقارب الساعة تشير إلى الخامسة والنصف صباحا، عندما وقفت فاطمة محمد، أمام قبر ابنها الأصغر الذى لا تعرف كيف مات رغم مرور 18 عاما على وفاته.
الرواية الرسمية لمقتل ابنها على الصادق تقول إنه قتل ضمن اشتباكات وقعت على طريق مصر أسوان الغربى بالقرب من قرية كلح الجبل، بينما الرواية التى كانت فاطمة شاهدة عليها تؤكد أن ابنها كان معتقلا قبل وقوع هذه الاشتباكات بأكثر من عشرة أيام، وهو ما يدعم ادعاء ابنها الأكبر مجاهد الذى تم اعتقاله لمدة 14 عاما، وقال إن شقيقه الأصغر قد مات جراء التعذيب مستدلا على ذلك بتقرير الطب الشرعى الذى أشار إلى وجود التهابات بالمخ، أرجعها مجاهد إلى التعذيب بالكهرباء، وكسر بالعمود الفقرى.
كما تروى فاطمة فقد اعتقل ابنها فى 16 فبراير 1994 فى شهر رمضان، بعد حملة قام بها ضابط بمباحث أمن الدولة شهرته «أبوزيد»، حيث اقتاد ابنها إلى مكتب مباحث أمن الدولة الموجود حينها بمركز شرطة ادفو، بحسب روايتها، وكانت كل يوم تحاول رؤيته دون جدوى، ولكنها كانت تصر على حمل طعام الإفطار له كل يوم.
وتضيف فاطمة: "بعد اعتقاله بـ10 أيام فى 27 فبراير 1994، فوجئنا بجندى من مركز الشرطة يطلب حضورنا للمركز حيث وجدنا جثة على، ومحضر يقول إنه قتل فى اشتباكات، كيف ذلك؟ وابنى موجود لدى مباحث أمن الدولة؟".
يقول الأخ مجاهد: «لم تنس أمى أبدا الجملة التى قالها لها الضابط أبوزيد وقت القبض عليه حين سألها: لديك كم من الأولاد؟ فقالت 5، فرد عليها بسخرية: «كفاية عليك ثلاثة»، فى إشارة إلى اعتقال مجاهد الذى كان معتقلا قبل أخيه بعام كامل، مشيرا إلى انه تحت ضغط المباحث تم دفن الجثة ليلا، ولم يحاول أحد كشف الحقيقة، خاصة مع توحش نفوذ أمن الدولة فى هذا الوقت وخوف العائلة على باقى أبنائها.
ليس الضحية الأولى
اشتباكات الكلح الغربى لم يكن على الصادق ضحيتها الأولى، ففى نفس الاشتباكات تم إعلان وفاة محمود أبوالمجد صالح، الذى اعتقل فى أول شهر رمضان هو وعدد من إخوته، ليعلن عن مقتله بعدها فى نفس الاشتباكات التى قيل إن على الصادق توفى فيها.
جيهان إبراهيم سيدة تبلغ من العمر 42 عاما زوجة أحد أعضاء الجماعة الإسلامية المتورطين فى اغتيال الكاتب فرج فودة، كانت التهمة التى وجههتها مباحث أمن الدولة لها هى إيواء الهارب حسن صالح أحد المطلوبين فى القضية، بينما تؤكد هى أنها لم تر حسن فى حياتها سوى مرة واحدة بعد وفاته، لكنها كانت تأوى زوجته لعدة أيام.
"بعد أن تركت هذه السيدة منزلى فوجئت باعتقالى عام 1994من منزل الأسرة"، لتتهمها أمن الدولة بعد ذلك بعدة اتهامات كان منها إيواء الهارب حسن صالح الذى طبقا للرواية الرسمية رفض تسليم نفسه، ولكن طبقا لرواية جيهان فإنها لم تره إلا بعد وفاته حيث شاهدت جثة فى أحد أروقة أمن الدولة ملفوفة فى بطانية ترجح أنها جثته.
وتقول جيهان، التى رفضت تسجيل شهادتها لاعتبارات شخصية لم ترد الافصاح عنها، وكلفت زوجها بتسجيل الشهادة نيابة عنها، أنها تم اعتقالها من منزل أهلها وتم سؤالها عن حسن صالح فقالت الحقيقة: «كانت زوجته لدى وتركت المنزل ولا أعرف مكانها أو مكانه»، وتضيف "رغم ما قلته فإننى ظللت قيد التحقيق والتعذيب، وفى احد أروقة أمن الدولة كنت جالسة فقال لى شخص هل تريدين الصلاة؟ فقلت نعم، فقام بضربى بقدمه لتوجيهى إلى اتجاه القبلة وبعد الصلاة، رفعت الغمامة من فوق عينى فوجدت جثة ملفوفة فى بطانية كالكفن، وقال لى الضابط حينها إن حسن صالح قتل فى شقتى، وقد تم إبلاغ زوجته بنفس الأقوال، وهو ما عرفته بعد مقابلتى لها حيث تم اعتقالها وتعذيبها هى الأخرى".
وتذكر جيهان أنها اثناء التحقيقات تم تحويل قضيتها من مدنية إلى عسكرية، حيث تم تقسيم المتهمين إلى ثلاث مجموعات، وكانت هى المرأة الوحيدة ضمن مجموعة مكونة من 98 شخصا، وتم الحكم عليها بالسجن 15 سنة، قضيت منها 11 عاما فى سجن القناطر.
ظلت جيهان طول مدة التحقيق والمحاكمة لا تعرف ما حدث فى شقتها أثناء اعتقالها، حتى كشفت لها إحدى الجارات التى جاءت لها زيارة أثناء قضائها مدة العقوبة، لتروى لها تفاصيل ما جرى فى هذه الليلة، «قوات الأمن جات البيت فى الفجر لما كنتى انتى فى بيت أهلك، وشالوا جثة واحد على نقالة، ورفعوه من الشارع لغاية شقتك من الشباك، ولما حاولنا نشوف ايه اللى بيحصل من الشبابيك، اجبرونا على الدخول، لكن انا شفتهم من ورا الازاز»، هكذا حكت لها الجارة.
وتضيف جيهان على لسان جارتها "بعد إدخال الجثة لشقتى صعد أحد الجنود إلى داخل الشقة وادعى أنه هو حسن صالح بينما قام الضابط من الشارع عبر مكبر الصوت مطالبا إياه بتسليم نفسه إلا أنه رفض، وتم إطلاق نار لينتهى المسلسل بخروج جثمان حسن صالح من البيت على نفس النقالة التى دخل عليها".
قتل خارج نطاق القانون
يقول أمين عبدالعظيم مسئول ملف القتلى والمفقودين فى الجماعة الإسلامية، إن حالات القتل خارج نطاق القانون أو نتيجة التعذيب تصل إلى 500 شخص، كان منهم حالات شهيرة مثل حالة خميس عبدالمقصود ورضوان محمد مصطفى اللذين تم قتلهما فى شقة بالواسطى فى بنى سويف، وتم الإعلان على أنهما قتلا فى مواجهات على الطريق الصحراوى عام 1995.
و فى 12 يوليو من نفس العام تم وضع جثة عبدالعزيز أمين الشريف فى شقته بمركز ببا، حيث تم ادعاء انه قتل بعد مقاومة السلطات رغم أنه قتل فى أمن الدولة، كما يقول مسئول ملف المفقودين، "واذكر أن الضابط الذى قتله جاء لنا فى سجن الوادى الجديد، وهو الآن فى مديرية امن المنيا وقال لنا بالنص هذه الطبنجة هى التى قتلت بها شيخكم".
ويضيف عبدالعظيم أن العمليات الوهمية لم تكن الوسيلة الوحيدة للتغطية على عمليات القتل خارج نطاق القانون، فهناك طرق أخرى منها إخفاء الجثة، وأشهر هذه الحالات على الإطلاق هى حالة الدكتور علاء محيى الدين المتحدث باسم الجماعة الذى قتل فى شارع ترسا بمنطقة الهرم، وبعد مقتله تم وضع جثته فى مشرحة زينهم، وأثناء تسليمها لعائلة أخرى، اكتشف سامح عاشور نقيب المحامين وابن عم الدكتور علاء الأمر ومنع تسليمها.
ويشير عبدالعظيم إلى أن علاء تلقى عدة تهديدات عقب نشاطه الإعلامى ضد النظام السابق خاصة بعد إحداث قرية كحك البحرية بالفيوم، والتى قتل فيها الأمن 40 شخصا بعد مقتل احد ضباط امن الدولة، حيث قام أحد الضباط برتبة مقدم بإجبار سيدة على السير عارية فى الشارع قرابة ساعة بعد رفضها الإدلاء بأى معلومات، وقام الأمن بقتل 40 شخصا انتقاما دون محاكمة.
ورغم عدم وجود علاقة بين الجماعة الإسلامية وهذه الاحداث، فإن الجماعة وقفت ضد هذا السلوك، وبدأ علاء فى فضح تلك الممارسات خلال المؤتمرات وفى مقالاته بصحف المعارضة وعلى رأسها "الشعب".
صراع وثأر
الناشط الحقوقى نجاد البرعى، رئيس جماعة تنمية الديمقراطية، وأحد أبرز المحامين الذين تولوا قضايا مماثلة من الناحية الحقوقية، اعتبر فترة الثمانينيات والتسعينيات هى فترة صراع وثأر بين الجماعة الإسلامية والدولة بأكملها، مشيرا إلى أن تلك الفترة كانت عقب اغتيال الرئيس السادات، وكانت الجماعة الإسلامية تحتل أماكن وإحياء بأكملها كإمبابة مما ولد شعورا بالقوة، ونظرا لغياب القنوات السياسة كان العنف هو الوسيلة الأبرز فى التعامل.
وأضاف البرعى أن مرحلة الصراع بين الدولة والجماعة الإسلامية بدأت باغتيال علاء محيى الدين عاشور، وهو ما أعقبه رد الجماعة وتوالت الحوادث إلى أن انتهت هذه الفترة بانتصار الدولة، بعد عدة انتهاكات لحقوق الإنسان على الجانبين ولكن لأن الدولة أقوى فكانت انتهاكاتها أوسع، واصفا هذه الفترة بأنها أصعب الفترات التى شهدت انتهاكات لحقوق الإنسان فى مصر خاصة مع ارتباك الدولة.
ويشير البرعى إلى أن حالات القتل خارج القانون لأفراد من الجماعة الإسلامية كانت تصادفه بكثرة أثناء عمله الحقوقى، يذكر منها حالة بحى السيدة زينب حيث قتل ثلاثة أشخاص فى شقتهم وقيل أنهم هربوا، وقاوموا السلطات وتم قتلهم، إلا أنه أثناء التحقيق الموازى اكتشفنا أن القتل تم فى شقتهم ورأينا بأعيننا بقع الدم على جدران الشقة، وفى بنى سويف هناك أشخاص قيل إنهم قتلوا فى مداهمة فى الزراعات ثم تبين أنهم قد تم اعتقالهم وتعذيبهم وقتلوا والطب الشرعى أثبت ذلك.
أين قبر ابنى؟
إن كانت السيدة فاطمة يؤلمها عدم معرفة الرواية الحقيقية لمقتل ابنها، فإن عبدالدايم على عبدالدايم يسعى فقط لمعرفة مكان ابنه عبدالفتاح سواء كان حيا أو ميتا، حيث تم اعتقال عبدالفتاح فى أوائل التسعينيات للمرة الأولى وإجباره على توقيع إقرار توبة بعد ضغط والده عليه، ليتم استدعاؤه لأمن الدولة بأسوان مرة ثانية بعدها بأشهر قليلة ويتم مطالبته بالعمل كمرشد لمباحث أمن الدولة وهو ما رفضه عبدالفتاح واختفى بعدها، ولم يتم الإفراج عنه أو إعلان مقتله.. فقط اختفى.
وكما يروى والده، فإن ضباط أمن الدولة أعلنوا بعد اعتقال ابنه بفترة وجيزة انه ليس موجودا لديهم دون توضيح إذا كان تم ترحيله أو تم الإفراج عنه، إلا أن عددا من الضباط قالوا له بصورة ودية «أنه تم ترحيله» ومنذ ذلك الحين وهو يقطع رحلة البحث عن ولده دون جدوى، ولم يترك معتقل تم الإفراج عنه إلا وسأله إن كان وجده فى أى سجن ولم يترك سجنا إلا وبحث فيه دون جدوى.
إلا أن ما لم يكشف عنه عبدالدايم هو إن عددا من ضباط أمن الدولة يتلاعبون به، ويبلغونه بأنه سيفرج عنه قريبا، أو أنه فى سجن ما ليقوم الأب المفتقد لابنه برحلة شاقة لهذا السجن دون جدوى، وذلك بناء على أقوال عدد من قيادات الجماعة بأسوان.
وبناء على شكوى قدمها أحد قيادات الجماعة الإسلامية بأسوان للنيابة، أخذت النيابة أقوال والد عبدالفتاح حول الواقعة فى محضر رقم 2413 لسنة 2011 إدارى إدفو، ولكن لم يمثل أمام النيابة أى شخص من ضباط أمن الدولة المتهمين فى البلاغ، وحين استعلمت النيابة عن اسم عبدالفتاح من مصلحة السجون ردت بنفى وجوده فى أى سجن، ليبقى والد عبدالفتاح فى حيرة من أمره معلقا بين اليأس والرجاء.
خرجوا دون عودة
واقعة عبدالفتاح لها واقعة مماثلة يرويها الناشط الحقوقى محمد زارع رئيس المنظمة العربية للإصلاح الجنائى، وأحد المحامين الذين تولوا قضايا مشابهة فى التسعينيات، حيث أكد أن هناك قضية تولاها اختفى فيها 40 شخصا فجأة بعد اعتقالهم وأثناء التحقيق معهم، حيث تم البحث عنهم فى مباحث أمن الدولة وفى السجون دون جدوى، مشيرا إلى أن أغلب الظن أنهم قتلوا، وقامت أسرهم بعمل إجراءات قانونية.
ويضيف زارع أن فترة العنف التى شهدتها مصر فى التسعينيات، حدث فيها الكثير من التجاوزات، فهناك مئات الحالات لأشخاص تعرضوا للتصفية ولم يتم حل لغز حوادثهم حتى الآن، حيث تم عمل مسرح جريمة منها حادثة وقعت فى الزاوية الحمراء، إلا أن زارع لم يستطع ذكر تفاصيل الحادث بالكامل، مشيرا أنه يكفى القول بأن التسعينيات شهدت وصول عدد المعتقلين لـ23 ألف معتقل مورس ضدهم جميعا التعذيب بشكل منهجى، لذا يمكن وصفها بأنها كانت فترة ثأر بين الجماعات الإسلامية وبين الدولة ممثلة فى جهاز مباحث امن الدولة.
واستدل زارع بأن فى أغلب القضايا الخاصة بالجماعة الإسلامية كان يتم إصدار إحكام بالإعدام على المتهمين إلا أن الضباط كانوا يفضلوا تصفية القيادات كنوع من أنواع الثأر.
المتهمون يتحدثون
فى أغلب الحالات التى اصطدم بها التحقيق كان من الصعوبة بمكان الوصول إلى عائلات الضحايا، إلا أن الأصعب كان محاولة الوصول لضباط مباحث أمن الدولة الذين شاركوا فى مثل هذه العمليات، وبعد حصر لأسماء الضباط الذين وردت أسماؤهم فى أثناء إجراء التحقيق، وخرجوا من الخدمة، حاولنا الاتصال بهم فكانت النتيجة هى الرفض فالأول بعد تأكيده أنه الشخص المذكور ادعى أن الرقم خطأ، أما الآخر فقد أغلق الهاتف بمجرد معرفته بغرض الاتصال، أما الثالث فقد هدد بإقامة دعوى قضائية فى حالة الاتصال به مرة أخرى، فاضطرت "الشروق" إلى التعامل مع طرف غير مباشر.
آيتن أمين مخرجة تليفزيونية أخرجت الجزء الثانى من فيلم «الطيب والشرس والسياسى» وكان من نصيبها مقابلة عدد من الضباط منهم ضابط أمن دولة مستقيل وافق على الظهور فى الفيلم دون الكشف عن شخصيته، إلا أنها حين حاولت إقناعه عبر الوسيط الذى أقنعه بالظهور للمرة الأولى بالحديث معنا رفض، لكن آيتن وافقت على نقل ما قاله الضابط وتم تسجيله، حيث أكدت أنه اعترف بأنه شارك فى أحد عمليات المداهمة فى الجبال بصعيد مصر، وبعد يوم طويل لم تسفر المداهمة فيه عن شىء فوجئ فى اليوم التالى بخبر منشور فى الصحف بأن هناك أربعة أشخاص تم قتلهم أثناء الاشتباكات، ليكتشف أن المداهمة كانت عملية وهمية للتغطية على مقتل الأربعة أثناء التحقيقات.
ونظرا لأن كل الاتهامات السابقة تم توجيهها لضباط أمن الدولة، فقد حاولت «الشروق» الحصول على رد رسمى من الوزارة، لكنها لم تتمكن، حيث رفض اللواء هانى عبداللطيف مسئول إدارة الإعلام والنشر بوزارة الداخلية التعليق، مشيرا إلى أن أغلب الاتهامات التى وجهتها الجماعة الإسلامية لوزارة الداخلية وجهاز أمن الدولة قبل ثورة 25 يناير، تم تقديم بلاغات للنائب العام بها، وأن وزارة الداخلية ترفض التعليق على أى تحقيق قضائى.