عاش فاكلاف هافل حياته بصدق، سواء داخل قصر الرئاسة أو خارجه، فيما تنطوى تجربة هذا المثقف التشيكي الكبير الذى فقدته الإنسانية مؤخرا، 18 ديسمبر الماضي، على نوع من الإجابة لإشكالية المثقف والسلطة.
وتقول مجلة "نيويوركر" إن فاكلاف هافل كتب عليه أن يعيش فى ظل النظام الشمولي "كشخصية كافكاوية" من تلك الشخصيات التى أبدعها فرانز كافكا، حيث العبث هو الذى يحكم لا القانون والأهواء هى التى تتحكم فى أقدار البشر لا العقل والكفاءة".
غير أن هافل- كما توضح "النيويوركر"- لم يستسلم لارادة الطغيان وقرر بهدوء وحسم خوض معركة طويلة انتهت بثورة ضد النظام الشمولى وجاءت بهذا المثقف الكبير لقصر الرئاسة، فيما لم تغير مظاهر الحكم وأبهة السلطة من جوهر الكاتب المسرحي المبدع الذى لم يتخل أبدا عن تذوقه للنكتة، كما لم يتخل عن ابتسامته المتعاطفة مع الإنسان أينما كان أو إيمانه بسلطة الكلمة الصادقة.
وتبدو إشكالية المثقف والسلطة جلية وتثار من حين لآخر كما حدث فى حالة الكاتب والرئيس التشيكى الراحل فاكلاف هافل، الذى تعرض لهذه الاشكالية فى مذكراته التى تناولت سنوات وجوده فى السلطة.
فاكلاف هافل..قائد الثورة المخملية
وتولى الكاتب المسرحى فاكلاف هافل الذى ولد عام 1936 ووصف بأنه "قائد الثورة المخملية" منصب الرئاسة مرتين الأولى لجمهورية تشيكوسلوفاكيا منذ أواخر عام 1989 حتى استقالته من هذا المنصب فى شهر يوليو عام 1992 بعد تقسيم البلاد، والثانية عندما أصبح رئيسا لجمهورية التشيك الجديدة فى عام 1993 ، حيث استمر فى منصبه الرئاسى هذه المرة لعقد كامل .
والطريف أن فاكلاف هافل اعترف فى محاضرة عامة بأنه كلما مر عليه يوم جديد فى الرئاسة ، يشعر بمزيد من الخوف من أنه قد لايكون جديرا بهذا المنصب تماما، كما أنه كلما جلس ليكتب خطابا جديدا يخشى من أن يكرر نفسه وألا يكون لديه جديد يقوله، ومع ذلك فثمة اتفاق عام بين مواطنيه وحتى فى الخارج على أن هافل كان رئيسا قديرا كما هو كاتب ومسرحي عظيم .
واختار هافل عنوانا طريفا لمذكراته وهو :" باختصار من فضلك" والتى تعرض فيها لقضايا شائكة ومثيرة للجدل من بينها نزاعه مع فاكلاف كلاوس الذى عمل رئيسا لحكومة التشيك فى فترة رئاسته للجمهورية ثم خلفه فى المنصب الرئاسى .
وكان الخلاف بين الرئيس الأديب الراحل فاكلاف هافل ورئيس الحكومة فاكلاف كلاوس تحول إلى قضية خطيرة شغلت الرأى العام التشيكي فى أول عقد للجمهورية الجديدة بعد سقوط النظام الشيوعي.
وكخبير له رؤى اقتصادية ومالية ذات ملامح موغلة فى الرأسمالية وكمسؤول، عمل كوزير لمالية تشيكوسلوفاكيا قبل أن يتولى منصب رئاسة حكومة جمهورية التشيك، عمد فاكلاف كلاوس لفرض هذه الرؤى وتشجيع الخصخصة بشدة فى الجمهورية الجديدة، فيما كانت المشكلة الحقيقية فى التطبيق حيث انتشر الفساد بصورة غير مسبوقة.
وازداد الخلاف حدة بين الرئيس الأديب ورئيس الحكومة الخبير وامتد للمجال السياسى عندما اتجه فاكلاف كلاوس للانشقاق على "تجمع المنتدى المدني" كحركة ديمقراطية جامعة تمكنت بقيادة فاكلاف هافل من القيام بدور فاعل أثناء الثورة المخملية فى نهاية عام 1989 وإقصاء الحزب الشيوعى الشمولى عن السلطة وتشكيل الحزب الديمقراطى المدنى الذى نال غالبية فى الانتخابات البرلمانية.
وكان فاكلاف هافل أكثر ليبرالية على الصعيد السياسى ويتبنى كرئيس ثقافة سياسية جديدة ترتكز على التنوع وحق الاختلاف مع الانحياز اقتصاديا للفئات المحدودة الدخل والمتضررين من الخصخصة وكانت شخصيته مختلفة تماما عن شخصية رئيس حكومته، فهو متواضع وخجول، بينما فاكلاف كلاوس معتد بذاته ومستعد دوما للصدام مع الآخرين ومن ثم كان لابد من الصدام والفراق بين الرجلين.
وبقلم جرىء يدمى خصومه خلافا لشخصيته الخجولة، تعرض فاكلاف هافل فى مذكراته التى صدرت بعنوان "داخل قصر الرئاسة وخارجه" لهذا الخلاف الحاد مع رئيس حكومته، معتبرا أن فاكلاف كلاوس وفريقه أشبه "بالمجوهرات المزيفة أو الفالصو".
السياسة و الكتابة
والواضح من هذه المذكرات أن السياسة شدت فاكلاف هافل بعيدا عن الكتابة والفن، كما أن نفسه كانت مفعمة بالمرارة من فاكلاف كلاوس الذى تولى فيما بعد منصب الرئاسة وهو وإن كان يدرك مقتضيات السياسة وألاعيبها ومكائدها فإنه ككاتب ليس بمقدوره التخلى عن الضمير أو التنازل من أجل البقاء فى السلطة.
ومن هنا فإن هذه المذكرات تجسد على نحو ما اشكالية المثقف والسلطة وهى اشكالية مطروحة فى العالم كله، فيما باتت تفرض نفسها على الساحة المصرية مع انخراط مثقفين فى العمل السياسى ودورهم فى ثورة 25 يناير.
ولن ينسى التاريخ ولا ذاكرة القارة السمراء أن ليوبولد سنجور أول رئيس للسنغال وأحد أهم المفكرين الافارقة والاديب والشاعر العالمى الشهير قد تنازل عن منصب الرئاسة بمحض ارادته.
أما الكاتب والرئيس التشيكى الراحل فاكلاف هافل فيثق فى حكم الشعوب والتاريخ مهما كانت المغالطات ومكائد الخصوم السياسيين .
كما لن ينسى تاريخ الأدب تلك الرسائل التى كان فاكلاف هافل يبعث بها من السجن لزوجته أولجا هافلوفا والتى وصفت بأنها "من أجمل رسائل الحب" رغم أنه طلقها بعد وصوله لمنصب الرئاسة ليتزوج من ملكة جمال براج.
وفى تلك الرسائل التى تحولت الى كتاب بعنوان "رسائل لأولجا" ونشر بالانجليزية عام 1983، تحدث هافل بقلمه المبدع عن عذابات السجن وبشاعة المحققين ونازية السجانين فى ظل نظام استبدادى، فيما قدر له أن يشرح فى اطروحة بعنوان دال وهو : "قوة الذين لاحول لهم ولاقوة" السبل التى تمكن بها المستضعفون والمهمشون فى ظل النظام الشمولى الاستبدادى فى الاتحاد السوفييتى السابق من إلحاق الهزيمة تدريجيا بنظام اتسم بالجبروت.
ولاحظت مجلة "نيويوركر" أن فاكلاف هافل قضى فى الشهر الذى يتزامن مع الذكرى الـ20 لانهيار الاتحاد السوفييتى، معتبرة أن "هذا البرجوازى الخجول والكاتب المسرحى الماكر والقليل الكلام وصاحب الدراسات الأدبية والمقالات الثرية" كان من أقوى وأهم الأصوات التى أفضت لتقويض دعائم الاستبداد وإسقاط المنظومة الشمولية الشيوعية.
وواقع الحال أن فاكلاف هافل اعتبر سلطته كرئيس وكمثقف مسؤولية جسيمة حيال مواطنيه فى المقام الأول، حتى قضى بسرطان الرئة الذى أصيب به ، ليودع العالم رجلا عاش حياته بصدق وقاوم الزيف والكذب والطغيان حتى الرمق الأخير.