الكتاب دوَّن فيها المفكر الكبير سيرته الذاتية عبر ثلاث شخصيات متخيلة
«قمة شامخة من قمم الفكر العربى والإنسانى.. وأستاذ تخرجت على يديه أجيالا وأجيال من المفكرين والمثقفين والأدباء، وصاحب نظرة مجددة فى ضرروة الجمع بين أصالة التراث وأسباب العلم الحديث، ورائد كبير من رواد حياتنا الفكرية والثقافية. ظل يملأ حياتنا فكرا وأدبا وعلما لفترة تزيد عن خمسين عاما. هو واحد من الأعلام الذين تركوا بصمات لا تنسى فى حياتنا الفكرية حتى إنه يسمى الآن بالفيلسوف العربى المعاصر، الذى استطاع أن يبلور لنفسه فلسفته الخاصة، مثله مثل كبار الفلاسفة، بل هو آخر جيل الفلاسفة الكبار فى عصرنا، ذلك هو الدكتور زكى نجيب محمود».. بهذه المقدمة الرشيقة الغنية بالعذوبة والجمال، جاء تقديم علم من أعلام مصر العظماء، فى البرنامج التليفزيونى «دفاتر الأيام». منذ شهور قليلة أشار الإعلامى الكبير محمود سعد على صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك» إلى واحد من كتب الدكتور زكى نجيب محمود هو «قصة نفس» محفزا الناس على قراءته متأثرا بأهمية الكتاب وأسلوبه الشيق البديع، معبرا عن حبه وامتنانه لاختيار العنوان قائلا: «كنت أتمنى أن أكتب عنوان بالشكل ده».
«قصة نفس»، الصادر عن دار الشروق، هو حلقة من ثلاث حلقات (قصة نفس، قصة عقل، حصاد السنين) دون فيها المفكر الكبير سيرته الذاتية، ولكن ليس أحداثا وأياما وإنما أفكار، هى سيرة أفكاره، وقصة نفسه وهو ينفصل عنها ليراها من بعيد، ويكتب عنها ويحللها ويرى ما تأثرت به وأثر فيها مهما صغر، إنه يروى لنا سيرته الذاتية من الداخل، وكيف لا وهو الفيلسوف، ولكنه أيضا أديب فيجعلها دربا يمزج بين الفكر والأدب، على فصول عشرة جاءت كالتالى: أحدب النفس، حصان من الحلوى، حلم ليلة فى منتصف الصيف، أطلال دوارس، رماد يشتعل، تراجم الأضداد، موت فى أسرة الأحدب، قلب يثور وعقل يطمئن وانفصام التوائم.
رحلة داخل نفس
صنع محمود من نفسه ثالوثا، فارتحل لكل واحد على حدة؛ ليراه مجردا، منفردا، واضحا، فخلص إلى أن لكل شخص منهم طبيعة تتنافر مع طبيعة الشخصين الآخرين؛ فمنهم «الأحدب» الذى كبلته الهموم وبات مكتئبا، وتناقلت عليه حياته، حتى بات مندفعا أهوج، فاقدا احترام الناس؛ ومنهم «العاقل» الذى صبغه العقل ببرودته وموضوعيته ففضل العيش مع الأفكار على العيش مع الناس؛ والأخير الذى ارتضى ما ارتضاه الناس، فانتمى إلى أسرة، والتمس أصدقاء، وأحب وكره. مزج غريب متنافر نجح الفيلسوف كعادته فى توصيفه وعرضه حتى تكاد ترى فيه نفسك وفيه تجد جموع من أنفس متعددة حولك.
«قصة نفس» بناها الفيلسوف على مبدأ فنى ارتآه لنفسه إذ ذاك، وهو أن يروى قصة تلك النفس من الباطن لا من الظاهر، بمعنى أن يكون محور الاهتمام بالخلجات الداخلية قبل أن يكون بالأحداث الخارجية، فتلك الأحداث الخارجية على مرأى من الناس ومسمع، وأما التأثرات الداخلية التى استثارتها تلك الأحداث فى دخيلة النفس، فتحتاج إلى بصيرة نافذة إلى العمق.
لكن لما كان جزء كبير من خلجات النفس فى استجابتها للظروف والعوامل المحيطة بها، هو مما يود صاحب تلك النفس أن يخفيه عن الناس، فقد اضطر الكاتب إلى اللجوء إلى الرمز، فلا الأشخاص يذكرهم على حقائقهم وأسمائهم، ولا الأحداث نفسها يصورها دائما كما وقعت بالفعل.
فهذا كتاب عبارة عن سيرة ذاتية اتخذ الفيلسوف زكى نجيب من الرواية قالب ليحكى عما بداخله والذى عبر على لسانه قائلا عن تلك الرحلة: «أردت بكتابة قصة نفس أن أصور حياتى كما سارت بها عوامل الباطن، وكان حتمًا أن ألجأ إلى الرمز».
ولد الدكتور زكى نجيب محمود بقرية ميت الخولى بمحافظة الدقهلية فى عام 1905، ودخل الكتاب ليحفظ شيئا من القرآن الكريم، ثم التحق بمدرسة السلطان مصطفى الأولية بميدان السيدة زينب بالقاهرة وهو فى الخامسة عشرة من عمره، حيث انتقلت أسرته إلى القاهرة. بعد أن عمل والده بمكتب حكومة السودان بالقاهرة انتقلت الأسرة إلى السودان، وهناك أكمل تعليمه الابتدائى بكلية غوردون فى الخرطوم، وأمضى سنتين فى التعليم الثانوى، ثم عاد إلى مصر ليكمل تعليمه الثانوى، ويلتحق بعدها بمدرسة المعلمين العليا.
و«مرت حياة زكى نجيب محمود الفكرية بثلاثة أطوار، انشغل فى الأولى التى امتدت حتى سفره إلى أوروبا بنقد الحياة الاجتماعية فى مصر وتقديم نماذج من الفلسفة القديمة والحديثة والآداب التى تعبر عن الجانب التنويرى، ويتمثل هذا النشاط فى الكتب الثلاثة التى اشترك فى تأليفها مع أحمد أمين والتى هى: قصة الفلسفة اليونانية، وقصة الفلسفة الحديثة، وقصة الأدب فى العالم. وبدأت المرحلة الثانية بعد رجوعه من أوروبا وامتدت حتى الستينيات من القرن العشرين، وفى هذه الفترة دعا زكى نجيب إلى تغيير سلم القيم إلى النمط الأوروبى، والأخذ بحضارة الغرب وتمثلها بكل ما فيها باعتبارها حضارة العصر، ولاشتمالها على جوانب إيجابية فى مجال العلوم التجريبية والرياضية، ولها تقاليد فى تقدير العلم وفى الجدية فى العمل واحترام إنسانية الإنسان، وهى قيم مفتقدة فى العالم العربى.
وفى هذه الفترة دعا إلى الفلسفة الوضعية المنطقية ونذر نفسه لشرحها وتبسيطها، وهى فلسفة تدعو إلى سيادة منطق العقل، وإلى رفض التراث العربى وعدم الاعتداد به. وعبرت كتبه التى ألفها فى هذه الفترة عن هذا الاتجاه مثل الفلسفة الوضعية وخرافة الميتافيزيقا.
أما المرحلة الثالثة فقد شهدت عودته إلى التراث العربى قارئا ومنقبا عن الأفكار الجديدة فيه، وباحثا عن سمات الهوية العربية التى تجمع بين الشرق والغرب وبين الحدس والعقل وبين الروح والمادة وبين القيم والعلم.
وفى هذه المرحلة دعا إلى فلسفة جديدة برؤية عربية تبدأ من الجذور ولا تكتفى بها، ونادى بتجديد الفكر العربى، والاستفادة من تراثه، وقال: إن ترك التراث كله هو انتحار حضاري؛ لأن التراث به لغتنا وآدابنا وقيمنا وجهود علمائنا وأدبائنا وفلاسفتنا، وكان يتمنى ألا نعيش عالة على غيرنا، وإنما نشارك فى هذا العالم بالأخذ والهضم والتمثيل ثم إعادة إفراز ما أخذناه مثلما فعل المسلمون حينما أخذوا العلم والفلسفة الإغريقية وهضموها ثم أفرزوهما وزادوا عليهما زيادات مهمة.
وكان يرى أن السر وراء تخلف العالم الإسلامى المعاصر هو أنهم يكتفون بحفظ القرآن الكريم وترديده دون العمل بما يشير إليه من وجوب العلم بالكون وظواهره، فإذا تنبه المسلم بأن البحث العلمى فى ظاهر الكون من ظاهرة الضوء إلى الصوت إلى الكهرباء والمغناطيسية والذرة، كل ذلك يشجع عليه ديننا، وإذا أيقن أن البحث فرض دينى، لكان المسلم الآن هو صاحب العلم وجبروته، ولكان الآن من راكبى الصاروخ وغزاة الفضاء، وكان هو الآن صاحب المصانع التى تأخذ من البلاد المتخلفة موادها الخام بأقل ثمن، ثم تردها إليه مصنوعات بأغلى سعر، فيكون الثراء من نصيبه والفقر من نصيب الآخرين، لكن المسلم لم يعقل ذلك كله وظن أن العبادة وحدها هى الأمر الإلهى».
ويعد الكاتب والمفكر زكى نجيب محمود، المدشن الأول لتيار الوضعية المنطقية فى مصر والعالم العربى والإسلامى، ويمتاز بذلك بكونه صاحب أسلوب أدبى متماسك وأنيق يخلق صلة بين الوعى الفلسفى والذوق الأدبى.