على الرغم من كل مظاهر الفرح التى تصاحب استقبال مولود جديد فى كل عائلة فإن هناك احتمالا قائما يظل معلقا فوق رأس الأم التى حملته وهنا على وهن تسعة أشهر كاملة، سحابة داكنة يثقلها ما تنوء به من أحمال لكنها أبدا لا تمطر.. تمنع أن تسطع الشمس فى يوم الأم التى لم تمض أيام على ولادتها. إنه أحد أنواع المرض النفسى الذى تتراوح شدته، تختلف أعراضه بين مشاعر الكآبة النفسية النفاسية (نسبة إلى أيام نفاس الأم مباشرة بعد الولادة) إلى اكتئاب حقيقى يطلق عليه «ذهان ما بعد الولادة».
حينما اجتمع المال والجمال والموهبة لبروك شيلدز الممثلة الأمريكية لم يتمكن أى منهم على سطوته من حمايتها من أن تسقط فريسة لاكتئاب ما بعد الولادة حتى إنها ضمنت تجربتها المريرة فى كتاب أهدته لكل الأمهات. حكت فيه كيف أن نوبات قاسية من الخلل النفسى كانت تهاجمها، حتى أنهم أنقذوا ابنتها الوليدة فى إحدى المرات من بين يديها بعد أن أطبقت على عنقها الغض محاولة الخلاص منها!
خضعت بروك شيلدز لعلاج نفسى مكثف لفترة طويلة حتى عادت إلى حالتها الطبيعية لكنها بالطبع مازالت تذكر تلك الأيام الداكنة بأسى يغلب عليه مرارة أظنها لازمتها طويلا.
< الاكتئاب: لماذا الأم؟
على الرغم مما يصاحب الإحساس بالأمومة من مشاعر الفرح والسعادة والشعور بالأهمية الاجتماعية فإن احتمالات اكتئاب ما بعد الولادة تستهدف ما لا يقل عن ٥٠ إلى ٨٠ بالمائة من الأمهات وإن كان فى صور مختلفة أكثرها قسوة لحسن الحظ هى أقلها انتشارا.
يظل السبب إلى الآن على الرغم من الدراسات العلمية والنفسية المتعددة التى أجريت ومازالت تجرى احتمالات على بعد مسافة ما من المعرفة الحقيقية لحقيقة الأمر. تظل النظرية الأكثر قبولا تشير إلى أن الجهد البدنى والنفسى واضطراب دورة الهرمونات فى مرحلة الحمل وما بعد الولادة مباشرة وراء تلك المشاعر الرمادية التى تنتابها. الإحساس بالمسئوليات الجديدة والخوف من القادم المجهول والانشغال بالواجبات الجديدة التى يفرضها الوليد الذى بعد أن كانت تحمله فى رحمها أصبح واقعا مستنفذا للجهد طالبا للرعاية، ينسحب الفرح ليحل الأسى وتنحسر البهجة لتحتل الكآبة مساحتها فى قلب الأم وعقلها.
< الكآبة النفاسية
الكآبة النفاسية أو الولادية نسبة لارتباطها بالولادة وما يليها من أيام النفاس تبدو الصورة الأكثر شيوعا خاصة بين الأمهات حديثى العهد بالأمومة وتبعاتها. يتسلل إلى نفس الأم فى الأيام الأولى التى تلى الولادة مشاعر قاتمة لا تدرى كنهها. حالة من التوتر والقلق والاضطراب النفسى تجعلها أكثر حساسية. قد تثور لسبب تافهة ثم تنفجر فى البكاء دون سبب واضح. يلازمها إحساس دائم بالإرهاق وفتور الهمة يعذبها الأرق ويجافيها النوم وتتدنى مقدرتها فتفرغ طاقتها وتنحسر شهيتها للطعام. وقد تواتيها نوبات من فقدان الثقة فى النفس حينما تنتبه إلى زيادة وزنها وفقدانها لقوامها الرشيق التى اعتادت التباهى به. فترة من الزمن سرعان ما تنتهى لتستعيد الأم سابق عهدها وتعاود التكيف مع وضعها الجديد فى يسر وسلاسة وتبدأ مستبشرة فترة جديدة من حياتها متناسية ما حدث كأن شيئا لم يكن. مرحلة لا تحتاج إلى علاج إنما هى صورة تكتمل بها طقوس ميلاد طفل وبدايات مسئوليات الأمومة. من الطبيعى أن تلعب الأسرة خاصة الزوج دورا مهما فى دعم الزوجة فى تلك المرحلة وحتى انتهائها.
< اكتئاب ما بعد الولادة
قد تظل مشاعر الكآبة لفترة أطول لتتطور إلى أعراض اكتئاب حقيقية:
اضطراب فى المزاج وتفكير يغلب عليه السلبية والإحساس بخيبة الأمل والإحباط، فقدان الاهتمام بكل ما عرف عنها من أشياء محببة للنفس. على الرغم من اختلاف درجات الانفعال من امرأة لأخرى تظل سرعة الانفعال والمبالغة فى ردود الأفعال السمة الغالبة على التصرفات.
تصاحب تلك السلوكيات أعراض عضوية من القلق الدائم والتوتر والإرهاق وتسارع دقات القلب الأمر الذى يدعوها لمزيد من التوتر والذعر واضطراب المشاعر فتعمد إلى إيذاء الطفل فإذا لم ينتبه من حولها لحالها تزايد إهمالها لنفسها وطفلها إلى الحد الذى معه قد يستحيل الاستمرار فى الحياة.
تلك بلا شك حالة تستدعى طبيبا متخصصا فى الأمراض النفسية له دراية بتلك الحالات لأنها تحتاج لصبر فى التناول ودراية متخصصة.
< ذهان ما بعد الولادة
هى بلاشك أقسى أنواع اكتئاب ما بعد الولادة ولحسن الحظ هى أكثرها ندرة فنسبتها تقل عن حالة فى الألف. تبدأ أعراضها خلال أول أسبوعين بعد الولادة بما يعرف بالانفصال عن الواقع إذا تنفصل تماما عما حولها من وقائع وتفاصيل فى حياتها. تبدأ فى الهلوسة والهذيان وتبدو كمن تعيش فى عالم آخر منفصل تماما عما حولها. تفقد شهيتها للطعام ويتناقص وزنها بصورة قد تهدد حياتها. قسوة الصورة تفرض على المحيطين وعيا بحالتها يستدعى التدخل فورا لحماية حياتها ووليدها.
ــ هل هناك نساء أكثر عرضة من غيرهن للإصابة باكتئاب ما بعد الولادة؟
ــ هل للصدمات والأحداث المحزنة أو المشكلات العائلية دور فى الإصابة بالصور الأكثر قسوة من اكتئاب ما بعد الولادة؟
ــ هل فى الأمر عامل وراثى يسرى فى العائلات؟
كلها أسئلة مازالت بحاجة لإجابات فهل يستطيع العلم قريبا أن يعثر على الصندوق الأسود لاكتئاب ما بعد الولادة؟