دفتر العقد الجديد - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 7:05 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دفتر العقد الجديد

نشر فى : الأربعاء 1 يناير 2020 - 10:25 م | آخر تحديث : الأربعاء 1 يناير 2020 - 10:25 م

أفتح دفترى الجديد فيعود الغلاف ليغلقه. أمسك بالغلاف بعض الوقت وأضغطه على سطح طاولة الكتابة حتى يأخذ الوضعية المفتوحة. سنة جديدة أبدأ معها فصلا فى دفتر جديد. أنظر إلى الصفحة البيضاء وأتذكر أحد الفلاسفة حين شبه الذهن البشرى عند الولادة بالمساحة البيضاء. هل يمكن إعادة العداد كل أول سنة ليكون الذهن كسطح أبيض مستعد لاستقبال الألوان والكلمات؟ مستعد لاستقبال القصص والصداقات والصدمات دون مخزون سابق من الشعور بالزهو أو بالخيبة؟
***
أدخل عقدا جديدا، وهذا ليس بالقليل. أن تكون قد مررت بعقد غير ملامح العالم كما عرفته لعقود من قبله يبدو لوهلة وكأنك تقف فى مكان مشى من فوقه قطار، وليس أى قطار! قطار كذلك الذى أراه فى أفلام أطفالى المتحركة، قاطراته تكاد أن تخرج من على سكة الحديد من شدة سرعته وعزمه، يظهر من خلف شبابيكه أشخاص لا يمكن أن يكونوا حقيقيين، وحيوانات وعصافير وكائنات لا أعرف أصلها. يقود القطار شخص صغير القامة يتطاير شعره بفعل الهواء وتنطق عيناه بتهور من لا يقدر أثر ما يفعل.
***
قطار المجانين مر من هنا، مر فوق منطقتى فغيرها تماما، أخذ بعض من أعرفهم معه وداس على آخرين، أنا نفسى كنت تحت عجلاته أيضا لكنى سحبت جسدى بعد أن مشى فوق جزء منه فقط. بإمكانى القول إننى خرجت من سكته ببعض الخسائر الصغيرة التى لن أتوقف عندها بالمقارنة بما أشاهده من حولى من دمار.
***
أمسح بيدى على الصفحة الجديدة فى دفتر مخصص للعقد الجديد وأحاول أن أعود فى ذاكرتى إلى كل رأس سنة مضى علنى أستجمع صورا لمن كنت معهم وأرى من منهم ركب القطار ومن بقى حولى يحاول الابتعاد عن السكة دون أن يبتعد عن الحلم. أظن أن ثمة مواقف لا يمكن أن تتحكم بها الصدف فقط. كأن يرمى الكون فى طريقى شخصا سكن فى مدينتى وأحبها ثم جال العالم واستقر فى مدينتى الثانية. هكذا، فى وقت أشعر فيه بغربة شديدة بسبب تدمير القطار للكثير مما أحبه، يصل صديق قديم لأكمل معه أحاديث لا حاجة لى أن أشرح له خلالها التفاصيل.
***
أظن أن ثمة شخصية كوميدية مثل جوكر أوراق اللعب يختبئ بين الغيوم فلا أراه معظم الوقت إنما يسحب ورقة من هنا وأخرى من هناك، فيرتب بعض الأحداث ويخرب أخرى. بدأت أؤمن بأن لا صدف فى الحياة إنما خيوط كثيرة متشابكة بشكل يبدو من شبه المستحيل فكه، أكوام وأكوام من الخيوط حين ينجح الجوكر بشد أحدها يتهيأ لصاحبها أن ما يحدث له هو محض الصدفة. فى الحقيقة فقد سحب الجوكر طرف خيط فاحتك بخيط شخص آخر فى تلك اللحظة تحديدا. ينظر كل شخص إلى الآخر ويتساءل عن سبب لقائهما هنا، وخلال السؤال يشد الجوكر خيوطا أخرى فتظهر وجوه ناس فى حديث الشخصين. «يا لها من صدفة!!» يقول الأول. لا يا عزيزى، لا صدف فى الدنيا إنما حيوات مترابطة من أول المعمورة إلى آخرها، وإن رفعت رأسك لرأيت وجها يحاول أن يختبئ منك فى سحابة عبرت فوق مكان اللقاء منذ ثوانٍ.
***
وهكذا أربط رأس سنة بسابقتها بفضل شخص أو حدث أو طعمة أو رائحة، أكتب عنهم فى دفترى الجديد بعد أن طويت آخر صفحة فى دفتر سوف ينضم إلى رف الدفاتر. لم أفتح دفاترى القديمة قط على فكرة، حتى أننى منذ مدة قصيرة نظرت إليهم بألوانهم المختلفة وحجمهم الموحد وتساءلت عم سوف تكتشفه ابنتى عنى حين تقف أمام الرف يوما ما فى المستقبل حائرة بما يجب أن تفعله بكون دفاتر أمها التى ذهبت. دفاترى تحمل ملاحظات بعضها مكتوب بتأنٍ وبعضها على عجل. تحمل أيضا كثيرا من وصفات الطعام التى تتخلل الأحداث، فأنا كنت أتذكر فجأة طبقا معينا فأتصل بوالدتى من حيث أكون لأسألها عن الطريقة. سوف ترى ابنتى مثلا وصفة للفتة وسط ملاحظات حول ثورتين، أو طريقة عمل الكنافة بين سطور حول رحيل دكتاتور. فى طرف العديد من الصفحات سوف تتساءل ابنتى عن قوائم لأسماء قد تتعرف على بعضهم. هذه قوائم أصدقاء دعيتهم على العشاء فى بيتى. نعم فبين تسجيل الملاحظات ووصفات الطعام، أكتب أسماء ناس أحب أن أراهم فأنظم لقاءات تضمهم.
***
هكذا سوف تمسك ابنتى يوما ما بأحداث حياتى حين تضطر أن تتصرف بمجموعة دفاتر سوف أتركها فى البيت. أحداث سياسية ووصفات وأسماء من مروا بحياتى فمشوا معى جزءا أو أكثر من الطريق. لا صدف فى الحياة إنما خيوط متداخلة تربطنى بمن أحب وأكره، تقربنى وتبعدنى عن الناس والأحداث. وها أنا أبدأ بالكتابة على صفحة بيضاء فأخط أولى ملاحظاتى وأنقش أسماء من سينضم إلى عشاء الأسبوع القادم، حيث أجرب طبخة جديدة من مطبخ مشى فوقه القطار فدمر جزءا منه إنما احتفظت أنا بأجزاء أنقذتها لأننى كتبت عنها فى دفترى. كل عام ونحن خارج سكة سائق مجنون يقود قطارا يحاول أن يمشى فوقنا.
كاتبة سورية

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات