تراثنا وفكرة الترشيح التوافقى 2 ــ 2 - جمال قطب - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 9:42 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تراثنا وفكرة الترشيح التوافقى 2 ــ 2

نشر فى : الجمعة 2 مارس 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الجمعة 2 مارس 2012 - 8:00 ص

(1)

 

أبدع ابن الخطاب وأتقن ابن عوف (ر) إدارة أزمة «المرشحين المحتملين» مساعدة للمرشحين على تبين مواقفهم، وإخراجا للناخبين من حيرة يخشى عواقبها، ورغم هذا فمازال هذا الإبداع الفكرى حبيسا فى كتب التاريخ لم يأخذ طريقه لكتب الفقه تقعيدا وتنظيرا، فيا ضيعة أمة تنام مؤسسات الدعوة فيها سباتا عميقا، لا تنتج إصلاح الدنيا ولا ضمان حسن الآخرة، ونوم تلك المؤسسات هو سبب الفساد والاستبداد الذى حول الدولة إلى مرتع رهيب للفرعنة، حيث توافق الفقه العاجز اللاهى مع السياسة الرخيصة على صنع كسوف وخسوف حجبا نور الإسلام عن العالمين، وأقول ــ مع شدة الأسف ــ الفقه اللاهى العاجز لأنه اتجه اتجاها غير حميد إلى التركيز على الشعائر وولى الفقه ظهره شطر حقوق الناس سياسة واجتماعا، رغم شديد الوعيد على تجاوزها.

 

(2)

 

وغاب نور التوحيد فى أجلى حقائقه (حقيقة مساواة الخلق بعضهم لبعض) فتوحيد المعبود (ج) يعلن شراكة أهل الأرض بعضهم لبعض، فليس بين الناس آلهة (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدا...)، فلا ترفع ولا استقواء، ولا تكبر ولا إستعلاء، ولا ظلم ولا إقصاء، وكل ذلك يصفى ساحة المجتمع من الفقر والجهل والمرض والخيلاء والشحناء، ولذلك تعجب الناس كثيرا وتأففوا أكثر (قالوا أف) لهؤلاء الدعاة وزلقوهم بأبصارهم حينما تمرغوا فى أحضان السلطان وتوشحوا بعضوية حزبه ولجنة سياساته، وحاولوا الإبقاء على نظامه فقاموا بإصدار طبعات جديدة لذلك الإثم العظيم.

 

لقد وصف ربنا (ج) منهج الدعوة بالقول الثقيل «إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا...» لأن الدعوة والفقه «صناعة ثقيلة» يتفرع عليهما صناعات كثيرة مثل صناعة الرجولة والولاء والانتماء والعطاء والجهاد وحشد قوى الإعمار وعناصر الإنتاج، وذلك كله قبل التفكير فى فتح ابواب التبرعات، كذلك ففى الصيام عن بعض المتاع تأديب وتهذيب.. لقد غابت قيم الإسلام وتعاليمه فنبتت أجيال لا تعرف سوى التبرع أو المصادرة أو التسعير لأنها لا تعرف معنى الإيجابية والجهاد والمثابرة، والأشد من ذلك أنهم لا يعرفون قواعد المنهجية من التذكر إلى التفكر ثم التدبر والتعقل ختاما بالترجيح والتفقه ترتيبا وتنظيرا، حتى لا يصدق على المتفقه قول الإمام ابن تيمية (ر) «عمائمهم أبراج وأكمامهم أخراج والعلم عند الله تعالى».

 

ومع المنهجية تأتى منظومة القيم العليا، قيم الجماعية والمشاركة، والشورى، والعدل، والإحسان، والتخصص العلمى، والاختصاص الوظيفى، واستشراف المستقبل، والرضا العام، والشفافية ذلك «الحق المبين» تلك العشرة الطيبة المستقاة من الوحى الإلهى والبيان النبوى، وهى أساس العمل العام وقواعد المؤسسية التى طال غيابها.

 

(3)

 

وأعود «للترشيح التوافقى» «فالترشيح» ليس تقديم المواطن لنفسه بل هو قيام «أهل الاختيار» (فئة تتميز بالثقة والحيدة والشفافية وعدم الترشح لأى منصب) باستخلاص أحد المتقدمين طبقا لمعايير ومقاييس وضوابط بعضها فى المنصب المقصود وبعضها فى شخصية القاصد، فهذه الفئة هى آلية «التصفية والترشيح» لاختيار الأصلح لكل منصب دون إقصاء للآخرين بل هو توجيه لهم لمناصب أخرى، وربما لنفس المنصب فى ظروف أخرى، حتى لا ينزلق المتقدمون ــ من حيث لا يدرون ــ إلى ما نهى عنه الشرع «فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ...» ولهذا نرى فى أمريكا وإنجلترا اصطفاء الشعب لحزبين كبيرين ثم يقوم كل حزب بعمليات «التكامل والتفاضل» بين أعضائه ليقدم لكل منصب أصلح ما عنده، أنندب حظنا جميعا ويقول كل منا: «يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ...» أعجزنا أن نصارح أنفسنا وأن نبادر للخروج من أزماتنا.

 

(4)

 

وأما «التوافقى» فقد رسم ابن الخطاب (ر) أحد صوره باجتماع المرشحين كما ذكرنا، وقد أضفنا صورة أخرى بتفرغ أهل الاختيار، لإدارة عملية التوافق والتصفية، بشرط اطمئنان المتقدمين لنزاهتها، وثقة الجميع بخبرتها وحيدتها، وليكن لهذه الهيئة فروع على مستوى المحليات والنقابات الفرعية وهذا مجال واسع افتح بابه ليدلى كل من يقدر ويريد برأى سديد لدعم الفكرة ونقلها من مستوى التفكير إلى التنظير ثم التقرير.

 

فهاتان صورتان من الترشيح التوافقى، أما هذا «العبث المتسيس» و«اللهو الخفى المتلصص» يحاول استباق الجماهير بتزوير المناخ عليها (ترشيحا وانتخابا)، حيث ضبطوا وفى أيديهم من لا ترحب به الجماهير فضلا على رفضه خصوصا إذا كان جزءا لم يتجزأ من النظام «الخليع المخلوع» وقد رضى بكل مكان قذف به إليه حتى مكان ورقة التوت يستر بها قبح النظام.

 

(5)

 

وإنصراف الفقهاء ومؤسسات الدعوة عن الفقه السياسى أوقع المتفقهين مرة أخرى فى حرج شديد حيث أمسى البعض متمسكا «بروايات» يقدسها، ولما أصبح الصباح أدار ظهره لها وولى مقبلا شطر الضد دون بيان أو تنويه، والأكثر من ذلك انهم لم يأخذوا قواعد الفقه من الوحى الإلهى والبيان النبوى، بل تناولوه من عادات وتقاليد وأقوال تخاصم الزمان وتفارق المكان، ولو تعلموا القراءة الصحيحة لتصرفات السلف، واجتهدوا فى تفهمها لوجدوا السلف قد عرف للعمل العام تخصصات متعددة أهمها أهل الاختيار، وأهل الشورى وأهل الاجتهاد، وأهل الفتوى، وأهل العقد والحل، وأهل القضاء، وأهل الحسبة، وأهل الولاية الإدارية، وأهل الشوكة (ضباط وجنود الجيش) وهذه التخصصات العشرة فى فقه الدولة هى مصدر الاستقرار ومحور التداول السلمى للمناصب، وقد بين الفقه لهذه التخصصات الحدود والمسئوليات والضوابط والشروط بما لا يحتاج إلى إضافة غير تجديد الخطاب.

جمال قطب   رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر الشريف
التعليقات