الأدب حين يدق ناقوس الحقيقة - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 2:00 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأدب حين يدق ناقوس الحقيقة

نشر فى : الجمعة 1 مارس 2019 - 11:00 م | آخر تحديث : الجمعة 1 مارس 2019 - 11:00 م

واسعا يشرع الأدب العربى نافذته على مشاهد الظلم والعنف والحروب والخراب والارتحال التى تفتك ببلادنا.
قبل أيام قليلة، انتهيت من قراءة رواية «مسرى الغرانيق فى مدن العقيق» للكاتبة السعودية أميمة الخميس (صادرة عن دار الساقى، ٢٠١٧) ورواية «زهور تأكلها النار» للكاتب السودانى أمير تاج السر (صادرة أيضا عن دار الساقى، ٢٠١٦). وبينما اختارت صاحبة «مسرى الغرانيق» بدايات القرن الحادى عشر الميلادى سياقا زمنيا والارتحال بين مدن اليمامة وبغداد والقدس والقاهرة والقيروان والمرية (جنوب شرق إسبانيا) وقرطبة (عاصمة الأندلس) سياقا مكانيا، قدم تاج السر لقارئ روايته العديد من الدلائل على أن أحداثها تدور فى القرن التاسع عشر وفى مكان أسماه مدينة السور. غير أنه لا السياق الزمنى المبتعد عن اللحظة الراهنة الذى اختاره الكاتبان ولا الارتحال فى الماضى بين أمكنة معلومة وأخرى متوهمة نزعا عن الروايتين ارتباطهما الوثيق بما يجرى اليوم فى بلاد العرب.
بطل رواية أميمة الخميس هو «مزيد الحنفى» القادم من عمق جزيرة العرب والمرتحل منها إلى مدن السلطة والثروة والعلم شغفا بالكتب وبحثا عن الحكمة. على لسان «النجدى مزيد» ومن خلال الأحداث التى يمر بها وتمر به، تصنع الخميس صورة لمدن العرب فى القرن الحادى عشر الميلادى وقد سطا على حكمها إما خلفاء ضعاف وإما سلاطين لا يجيدون غير سفك الدماء وسيطر على مساجدها وساحاتها صنوف من كارهى المعرفة والمتعصبين ومدعى احتكار الحقيقة الكاملة من حنابلة بغداد ومثيرى الفتن الطائفية وحارقى كنيسة القيامة فى القدس إلى الفقهاء مكفرى الفلاسفة فى القاهرة وحارقى الكتب فى قرطبة.
وعلى هوامش تلك الصورة المخضبة بالجهل والظلم والعنف والدماء والاستبداد، على هوامشها يلوح واقع آخر عماده أئمة العدل والتوحيد (المعتزلة) وناقلو معارف وعلوم القدماء إلى اللغة العربية (أعمال الترجمة الواسعة للتراث الفلسفى والعلمى لليونان القديمة التى أنجزت فى «بيت الحكمة» إبان مجد الخلافة العباسية) وأنصار إعمال العقل لتحقيق صلاح الدنيا وتنزيه الدين. تضع أميمة الخميس بطل روايتها فى قلب ذلك الواقع الآخر، وتجعله من «السراة» الذين يجتهدون لإيصال كتب الفلاسفة والعلماء (من أرسطو والفارابى إلى الكندى والقاضى عبدالجبار وابن الهيثم) إلى الأمصار المختلفة. تضع الكاتبة «مزيد الحنفى» فى قلب ذلك الواقع الآخر، وتصف حركته وارتحاله من البداية فى يمامة جزيرة العرب إلى النهاية فى مرية وقرطبة الأندلس المسماة آنذاك «بكتف العالم» بارتحال الغرانيق الباحثة دوما عن دفء الشمس (والغرنوق وفقا للقواميس هو طائر مائى أبيض طويل الساق له منقار ذهبى، ولاستخدام مفردات الغرنوق والغرانيق دلالات أخرى ذات صلة بآلهة العرب فى الجاهلية وبروايات متنازع عليها فى كتب التاريخ والتفسير حول موقف الرسول عليه الصلاة والسلام منها).
غير أن نهاية السرى الراغب فى نشر العلم والغرنوق الباحث عن دفء شمس المعرفة تأتى مفجعة، حيث تلقى بها الوشايات إلى زنزانة معتمة ومصمتة فى قرطبة عقابا لها على «نشر كتب المهرطقة» ليكتب بذلك مجددا الانتصار الرمزى لسطوة الحكام المستبدين وتعصب كارهى المعرفة وظلامية مكفرى الفلاسفة. وحول نهاية «مسرى الغرانيق» كما فى تفاصيل السرد الروائى الكثيرة تطوى المسافات الفاصلة فى الزمان والمكان بين البطل وأئمة العدل والتوحيد وأصحاب إعمال العقل فى القرن الحادى عشر الميلادى وبين الباحثين فى القرن الحادى والعشرين عن انعتاق بلاد العرب من الواقع المرير للجهل والظلم والعنف والدماء والاستبداد.
***
أما فى «زهور تأكلها النار»، فيأخذنا أمير تاج السر إلى مشهد داعشى بامتياز حيث تفتك جماعة دينية دموية ومدججة بالسلاح بمدينة «السور» ومجتمعها المتنوع والمتسامح دينيا وعرقيا ولغويا. بطلة الرواية هى شابة عشرينية اسمها «خميلة» ولدت لتاجر قبطى ثرى ولسيدة إيطالية تهوى الرسم وبموافقتهما تذهب لدراسة «علم الجمال» فى مصر. ما إن تعود خميلة من دراستها، إلا وتتبدل أحوال «السور» التى يهاجمها رجال جماعة «المتقى» فيشعلون النيران فى بيوتها التى دوما ما احتضنت مسلمين وأقباطا ويهودا وعبادا لآلهة أخرى مثلما ضمت أفارقة وعربا وهنودا، ويكفرون جميع أهلها الذين لم يكن لهم سابق عهد لا بغلواء المتعصبين ولا بتوحش من يقتلون باسم الدين. تؤسس جماعة «المتقى»، بعد ذبح رجال السور وسبى النساء والأطفال، لحكم ظلامى ليست المرأة به سوى «مرحاض» يستفرغ بداخله سافكو الدماء ومشعلو الحرائق شهواتهم المريضة.
هكذا تجرى مصائر خميلة ورفيقاتها من نساء السور، فتنتهك الأجساد وتقطع رءوس من يقاومن أو يرفضن اغتصاب المتوحشين وتأكل النار أفئدة وأرواح شابات عشنا فى دعة ووداعة. ورجال جماعة «المتقى» يعلنون الطهارة غاية لسفكهم الدماء، وهم لا يفعلون غير تدنيس أرض كانت طاهرة بتنوعها وتسامحها الدينى والعرقى واللغوى.
وبين جرائم متقى القرن التاسع عشر وجرائم داعش القرن الحادى والعشرين تنعدم الاختلافات، ويدق أمير تاج السر بقوة ناقوس حقيقة يذكرنا بكون فظائع اليوم قد حدثت بالأمس (وفى أماكن ومدن ليست كالسور المتوهمة روائيا) وبكوننا لم نتعلم من ماضينا الدموى ما نحصن به مجتمعاتنا ضد ضياع تنوعها وتسامحها وضد سطوة الجهل والظلم والعنف والدماء والاستبداد. يدق ناقوس الحقيقة، علنا نستفيق.

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات