قميص واحد وامرأتان - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 7:03 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قميص واحد وامرأتان

نشر فى : الخميس 2 مايو 2019 - 8:40 م | آخر تحديث : الخميس 2 مايو 2019 - 8:40 م

قبل أن ألتقي أحمد الدريني من عدة شهور عندما كان يُعّد فيلما وثائقيا عن الدكتور ميلاد حنا كان كل ما أعرفه عنه أنه صحفي شاطر حصل على جائزتين إحداهما من نقابة الصحفيين المصريين والأخرى من مؤسسة هيكل للصحافة العربية. ثم التقينا وبدأ يسأل، والأسئلة عادة ما تكون كاشفة لصاحبها، وقد نجح بأسئلته أن يضيف بُعْدا آخر للبورتريه الذي رسمته له في خيالي فإذا به محاور مطّلع وفاهم. ثم مع صدور مجموعة قصصية للدريني عن دار الشروق تحت عنوان "قميص واحد تكويه امرأتان" ، أضيفَ بُعْدُ ثالث للبورتريه الخاص به، بُعْدُ القاص. ***

بدا لي عنوان المجموعة القصصية لطيفا، وهو من نوع العناوين الكاشفة أو الواضحة، فأن تكون هناك امرأتان تكويان قميصا واحدا فهذا معناه أن هناك صراعا بين أنثيين على صاحب القميص، تماما كما تنافست عيون ثلاث على أنف الدكتور هاشم بطل رواية "أنف وثلاث عيون" للكاتب الكبير إحسان عبد القدوس، ووجدتني أدخل في مقارنة طريفة بين أنف بطل إحسان وقميص بطل أحمد، ثم ضحكت في سرّي وأنا أقول يفتح الله فالتنافس على القميص أهون بكثير من التنافس على الأنف !

***
القصة التي تحمل المجموعة القصصية اسمها تحكي عن قميص كوّته رنا، ورنا هذه هي جارة بطل القصة والتي شبهها بأنها كمثل ابنة خالة القارئ تأكيدا على عاديتها الشديدة، لكن حين أعادت سلمى المطلقة الفاتنة كّي نفس القميص بعد أن وقع عليه عصير البرتقال ولبسه البطل ، أحس كما لو أنه دخل عالما جديدا. يلعب المؤلف هنا على الحدوتة التقليدية في سينما الأبيض والأسود: حدوتة ثياب البطل التي يسقط عليها العصير أو فنجان القهوة فيضطر لتغييرها ثم تتعقد الأمور كأن يفاجئ الزوج زوجته وهي تجلس مع الضيف الغريب الذي خلع ثيابه كي يتم تنظيفها. في هذه القصة تتجلى خفة ظل المؤلف، فبينما البطل يتساءل عما إذا كانت سلمى ستُسقط العصير على ثيابه كما يحدث في الأفلام العربية، إذا هو من يُسقِط العصير على قميصه لأنه كان يضحك على حكاية سلمى عن المأذون الذي انتابته "زغطة" لمدة عشر دقائق فتأخر كتبُ كتابها! عموما خفة الظل هذه يبدو أنها من صفات الدريني، وقد ابتسمتُ شخصيا من استخدامه تعبير "ذكاء البطة البلدي" ولم أكن على علم بذكاء البطة البلدي تحديدا، كما ضحكت من وصفه جمال إحدى المطربات بأنه كان أخّاذا لدرجة تضمن لها النجاح حتى لو كان لها صوت "علي الكسار"! وتراءى لي الكسّار بشحمه ولحمه وطرطوره.

***
في القصص العشر التي تتكون منها المجموعة تسيطر فكرة الموت على المؤلف رغم خفة ظله الملحوظة، فالموت يحضر في ثلاث من قصصه هي "مدمن الجنائز "، و"حدث وفاة سيدة عادية"، و"قبل الوفاة بقليل". تحكي القصة الأولى عن شخص أدمن التردد على سرادقات العزاء في مسجد عمر مكرم ليشرب فنجان القهوة السادة المعتبر، وهي قصة واردة الحدوث لكن تنقصها الحبكة الدرامية، فقد كان رد فعل مدير قاعة المناسبات بالمسجد حين اكتشف أمر البطل مبالغا فيه بدرجة كبيرة، اصطحبه إلى غرفة مجاورة واستفرد به ثم سبّه ولكمه وطرده بل وهدده بتسليمه للشرطة! قلت لنفسي إن بعض العزاءات تفتقر إلى المعزّين ويكون حضور أمثال صاحبنا فيها مفيدا، ثم أنه يسمع القرآن ولا يضر أحدا، وهو على أي حال لا يكلف أهل الفقيد إلا "تلقيمة بن". في القصة الثانية حكى المؤلف عن سيدة لا يوجد شيء يميزها ماتت قبل أن تحقق حلميها الصغيرين: أن تذهب إلى عملها الحكومي في سيارة خاصة وأن ترقص الڤالس مع رجل يرتدي البابيون. مسّت قلبي هذه القصة البسيطة، ولو كان الأمر بيدي لعجّلت بشراء سيارة البطلة ولحجزت لها في حفلة بفندق كبير لترقص مع لابس البابيون رقصتها الأخيرة، لكن الموت فاجأها وفاجأني. أما القصة الثالثة فهي ليست قصة بالمعنى الحرفي للكلمة، لكنها أقرب ما تكون للشعر المنثور، وهي تحكي عن موظف يحدثنا من العالم الآخر مستحضرا لحظات ما قبل وفاته، وهنا يتداخل الشعور بالانقباض في وداع البطل مع ابتسامة خفيفة لأن البطل التهم قبل وفاته ثلاث قطع من البسبوسة التي يحبها كثيرا.

***
الدين أيضا حاضر بقوة وبأشكال مختلفة في المجموعة القصصية لأحمد الدريني، فهو يبدأ مجموعته بقصة "حارة النصارى" أو حارة الألغاز كما يسميها، هذه الحارة التي تحاصر إذاعة القرآن الكريم خارجها الترانيم والعظات الدينية المنبعثة من بيوتها، والتي يوم أن تدحرجت إلى داخلها كرة الصغار نشأت مشكلة ما بعدها مشكلة فمن ذا الذي يقوى على أن يدخل حارة النصارى دون أن تشفطه وتبدل دينه؟ . ثم أن المسجد يشكل ساحة للأحداث في قصة "مدمن الجنائز" وأيضا في قصة "شلة المسجد المريبة" حيث يجتمع أربعة أشخاص غامضون أو أربعة أشباح في باحة المسجد فيروح البطل يطاردهم واحدا واحدا. وكثير من تعبيرات المؤلف مستوحي رأسا من القرآن وأيضا من الإنجيل، فالدين الحاضر عند المؤلف كاشف عن ثقافة دينية متعددة الروافد.

***
باختصار يمكن القول إن هذا العمل الأدبي الجديد لأحمد الدريني مشغول بالأسئلة الكبرى التي تفرض نفسها على مرحلته العمرية كما سبق أن فرضت نفسها علينا جميعا: سؤال الوجود وسؤال الخليقة وأيضا سؤال الخير والشر، ففي بعض قصص المجموعة تحلّى البطل بالفهلوة المصرية المعروفة ليتركنا المؤلف أمام سؤال: هل أخطأ بطل قصة "مقاتل السيستم" عندما اقتنص أخطاء شركات الاتصالات وأوبر وغيرها وابتزها ليحصل على مزايا شخصية لنفسه أم أن الخطأ الأصلي هو خطأ تلك الشركات؟ وهل كان بطل قصة "نصّاب النساء" نذلا كبيرا لأنه يضحك على النساء بكلامه الحلو الأملس أم أن النساء هن اللائي لم يتحصنّ بثقة كافية في النفس تغنيهن عن أسطوانات الغزل والهيام ؟

***
إن مجموعة "قميص تكويه امرأتان" من ذلك النوع من الأعمال الأدبية التي يخف حجمها ( ١٠٦ صفحة ) ويبقى أثرها، فلصاحبها التهنئة وفي انتظار روايته الجديدة التي علمت أنه يكتبها .

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات