حرب وَرَثة الديناصورات - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 5:28 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حرب وَرَثة الديناصورات

نشر فى : الخميس 2 أغسطس 2012 - 10:00 ص | آخر تحديث : الخميس 2 أغسطس 2012 - 10:00 ص

واضح أننى فاجأتهما بإشعالى النور وهما ملتحمان فى هذا الوضع الغريب فأربكتهما المفاجأة. لم يبديا هذه البراعة فى الفرار والقدرة الفذة على الاختفاء لدى بنى جنسهما فى الحالة الفردية. وهى براعة شغلت علماء الالكترونيات واستلهموها فى تطوير حركة الروبوتات اعتمادا على اكتشاف أن المسننات التى تدرع أرجل هذه المخلوقات ليست أعضاء حسية كما كان يُظن، بل تشكيلات ميكانيكية لقهر صعوبة الحركة على الاسطح العسيرة. وقد اكتشف علماء الأحياء أن لهذه الكائنات ضفيرة عصبية خاصة تمتد من الرأس إلى الذيل وتجعلها تنتبه للخطر من أى اتجاه يطل.

 

قدَّرت أن التحامهما الحميم، ظَهرا لظَهر، أعاق اتخاذهما قرارا بالفرار ينجيهما من هجوم يتوقعانه بما بات معروفا عن جنسهما من امتلاك ذاكرة متقدمة تجعلهما من أذكى الكائنات رغم وضاعة محتدهما. ولم يكن هذا الجمود التاعس الذى أصابهما فور إشعالى للنور هو الذى جعلنى أحجم عن سحقهما. بل التريث فى تأملهما بشىء من الإشفاق لأن هذا العناق الزوجى يمكن أن يكون الأول والأخير بالنسبة للأنثى. فالأنثى يحدث أن تلتقى بالذكر مرة واحدة فقط فى حياتها، فتظل تنجب حتى نهاية عمرها، مُعطية ما يقارب مائة وخمسين من الأبناء. فكيف أبطش بذلك الوضع العاطفى الوجودى التراجو أسطورى!

 

أحضرت ورقة ومررتها تحتهما بحذر حتى لا أثير هلعهما، وحملتهما على هذا البساط الورقى الطائر إلى سلة القمامة ليكملا عناقهما فى مكان لا يستنكفانه، فهما من القمامة يجيئون، ومع القمامة يذهبون، وبالقمامة ينتشرون. ولم أنس أمرهما لأننى كنت مشغولا منذ فترة بشأن نوعهما، وذلك الاجتياح الذى لم يتوقف مع ارتفاع حرارة الصيف على مطبخ شقتنا والحمامين، ومطابخ وحمامات شقق الجيران فى عمارتنا وعمارات الحى شبه الراقى الذى نسكنه. واكتشفت عندما أعيتنى الحيل المعتادة فى مقاومتهم أنها ظاهرة تعم القاهرة وربما مصر كلها كما أخبرنى مسئول شركة خاصة فى المكافحة الكيميائية يرأسها دكتور باحث بدرجة أستاذ فى أحد المراكز القومية العلمية المتخصصة.

 

تصوروا كائنا يستطيع أن يعيش أسبوعا على قيد الحياة بعد قطع رأسه. ولا تتوقف حياته على الفور بعد أن يتوقف قلبه الأنبوبى الذى يضخ دمه الأبيض فى الاتجاهين. يحيا بلا طعام لعدة أشهر، وبلا شراب لمدة شهر، ولا يتنفس لثلاثة أرباع الساعة مغمورا تحت الماء. يتحمل 15 ضعفا للجرعة المميتة من الإشعاع النووى التى تقتل الإنسان فينجو من حرب نووية أو تسرب إشعاعى كارثى. كائن بعيون مركبة ورأس صغير وذاكرة متطورة تكوِّن برامج محكمة للتصرف العاجل فى المآزق، ومنها برنامج للهروب الفورى يعتمد على استكشاف دقيق للفروق الطفيفة بين النور والظلام تتيح له الاختفاء البارق فى الثقوب الدقيقة بقدرة عجيبة على ضغط جسمه فى عُشر حجمه. كائن يرجع تاريخ وجوده إلى عصر الديناصورات التى انقرضت وبقى هو عبر 150 مليون سنة حتى وُصِف بأنه «سيرث الأرض». فهل ترث الصراصير أرضَنا؟

 

أى نوع من الصراصير هذه التى تزحف على بيوتنا وعاصمتنا ووادينا وتبلغ أوج زحفها فى هذا الصيف المصرى الحار؟ أردت أن أعرف لعلى استطيع استنباط طرق ذاتية بسيطة لمكافحتها، فوجدتنى استخدم طريقة «التشخيص بالاستبعاد» فى مواجهة احتمالات متعددة متشابهة. واحتمالات الصراصير الشائع غزوها للبيوت تكاد لا تخرج عن ثلاثة: الأمريكى، والألمانى، والشرقى أو الأفريقى، وهى تسميات ليست سياسية وإن كان ممكنا أن نرى فيها ذلك فيما نواجهه من ابتلاء نحن مسئولون عنه أولا وأخيرا.

 

الصراصير المُجتاحة لمصر حاليا صغيرة داكنة اللون متوسط طولها من الرأس إلى الذيل نحو 15 ملليمترا وتفضل الأماكن الدافئة والرطبة وهى شديدة البراعة والسرعة فى الفرار والاختباء بمجرد تعرضها للضوء، ولا يمكن أن تكون من فئة الصرصور الأمريكى التى ضربت بيوتنا وحياتنا منذ عدة سنوات، فالصرصور «الأمريكى» متوسط طوله 30 ملليمترا، لونه بنى براق بأجنحة طويلة لا يطير بها، أما الصرصور «الشرقى» فهو وإن كان يتشارك مع «الألمانى» فى متوسط الطول، إلا أنه يختلف فى اللون وسرعة الحركة. وهكذا لا يبقى أمامنا غير «الألمانى» الذى يُعتَبر من أكثر الصراصير صمودا أمام الوسائل الشائعة فى مكافحة الحشرات التى أعيانى تجريبها، فلجأت لشركة الأستاذ الدكتور المتخصص!

 

حضر رجلان ليبدآ الرش الذى جاء فى إعلان الشركة أنه لا يتطلب إخلاء المكان ولا مغادرة المنزل ولا تنبعث عن مواده أية روائح وتكفى مدة ساعة من إغلاق الأماكن المرشوشة لضمان عدم ظهور الصراصير لمدة سنة، أو خمس سنوات فى حالة إضافة مادة للقضاء على اليرقات. واخترت بالطبع أن أستريح لمدة خمس سنوات. ومع الدقائق الأولى لبدء المعركة اكتشفت أن الذى سيموت فورا ليس الصراصير الألمانية بل الرجل الذى نتع أنبوبة الرش على كتفه ودخل الحمام بلا كمامة وقد كان ممصوصا وضئيلا وبقفص صدرى مقبوض ويتنفس بعسر مما يشى بأنه مريض بربو مزمن، فأوقفت الرش لأننى لم أحتمل أن يموت فى بيتى. عندئذ تدخل الرجل الثانى الذى وضح انه «فنِّى» يرأس الأول، وبدأ الرش بسخاء مفرط فحوَّل أرض الحمام إلى بركة من السائل الأبيض السام الذى يرشه. ولا حظت أنه يخوض فى هذه البركة بشبشب فى قدميه فتذكرت حالات التسمم بالمبيدات التى كانت تكاد تودى بالفلاحين فى مواسم مقاومة دودة القطن لأنهم كانوا لا يفطنون إلى إمكانية تسممهم عبر الجلد بينما يذيبون المبيدات فى البراميل بأياديهم العارية قبل الرش ويخوضون فى سوائل الرش بأقدامهم الحافية بعد ذلك. ونبهت «الفنى» لكنه طمأننى بثقة العارف الخبير، فيما كانت رائحة الرش تخنقنا.

 

انتهت المعركة مأمولة النتائج مع الصراصير الألمانية. واستغربت عندما أخبرنى «الفنى» أنه استهلك 16 لترا فى حمامين ومطبخ صغيرة كلها. ولم يكن أمامى إلا الإذعان والدفع والحصول على «ضمان» السنوات الخمس. وبعد الغلق والفتح والتنظيف بدت ساحة المعركة فى اليوم الثانى وكأن الصراصير قد غادرتها إلى الأبد، لكننى فى اليوم الثالث ضبطت صرصورين صغيرين يعاودان الظهور وإن فى ترنح. ثم فى اليوم الرابع عثرت على صرصور نشيط أفلت من المطاردة. وكان أن قعدت مهموما أفكر فى الوضع، بما هو حاضر ومستقبلى، تكتيكى واستراتيجى. خاص وعام!

 

اكتشفت أن تلك الصراصير وما يشابهها من حشرات، ستظل تهاجمنا طالما تواصلت نكبة الزبالة فى حياتنا دون حلول جذرية لها. وهى نكبة مصدرها تلوث النفوس وسعار الفلوس وهمجية التكدس وقلة الحياء فى مواجهة القذارة. ليس فى الأحياء الفقيرة وحدها بل الأحياء الراقية وشبه الراقية أيضا، فمسلسل الخيبة هو نفسه الذى يفاقم تراكم الزبالة فى الشوارع وحول البيوت، حيث تتكاثر الحشرات فيها وضمنها تلك الصراصير الألمانية البارعة جدا فى تسلق الحيطان ومواسير المياه والصرف والغاز والوصول إلى مطابخنا وحمامتنا، وربما غرف نومنا فى المستقبل.

 

جوهر الحل فى معضلة الزبالة، كما غيرها من معضلات حياتنا المصرية، هو: «إيجاد المنظومة»، الفعالة والمستمرة بآليات شفافة، تفارق ممارسات الفساد التى أدرَّت على أحد القراصنة من «شلة» وريث زمن الغفلة ما يُقدَّر بأربعة عشر مليارا من الجنيهات كونها من شركة نظافة شبه وهمية غسلها بشركة أخرى أكثر شياكة فى قطاع الخدمات، وسرعان ما اختفت الشركتان واختفى معهما ذلك القرصان عقب سقوط النظام السابق. فهل حصلنا على «منظومة» جديدة لحل معضلة الزبالة فى العهد الجديد؟ حتى الآن لم يحدث، وأخشى القول بأن ذلك لن يحدث طالما اعتمدنا على «التفكير المدرسى» الذى تكشفت لنا حدوده الضيقة فى الفترة الأخيرة، بدلا من «الرؤية الإبداعية» فى حل مشاكلنا ذات الأولوية ومنها مشكلة الزبالة التى أحد تجلياتها جائحة الصراصير.

 

إننى أحترم وأثمن نزول الشباب إلى الشوارع فى حملة «وطن نظيف». لكننى لا أستطيع تثمين ذلك «التفكير المدرسى» لدى قيادات هؤلاء الشباب، فهو تفكير إن صلح فى حالة فرق كشافة مدرسية تقوم بأيام رمزية لخدمة البيئة، فإنه لا يصلح فى حل مشاكل دولة تفاقمت وتعقدت. فنحن أحوج ما نكون لرؤية إبداعية لرجال دولة، تعبر عن الابتكار وسعة الأفق والجسارة فى تقديم حلول خلاقة لأزمات مستعصية، وأخشى أن تكون هذه الرؤية مفتقدة، لأن التفكير المدرسى لم نره فقط فى معالجة موضوع القمامة، بل رأيناه كذلك فى دعوى تنشيط السياحة باستقبال الزائرين الأجانب فى المتحف المصرى بالتنورة والمزمار وورقة البردى والوردة، فى يوم عابر، بينما سائر الأيام تغص بما يجعل السياحة تتراجع وتنكمش دون مواجهة ولا مصارحة.

 

لقد تابعت محاولة لشباب «ناهيا» لتنظيف قريتهم من أكداس الزبالة بمنظومة مبتكرة بتكاليف ممكنة وتوظيف عمالة متاحة واستخدام تريسكلات وغرفة تجميع وفريق متابعة وصيانة، وهذا نموذج بسيط للرؤية الإبداعية فى حل المشاكل الوطنية يناقض «التفكير المدرسى» الذى لن يعدو كونه مجرد طلاء براق لأبنية تحاصرها الزبالة وتتسلل إليها جحافل الصراصير التى ورثت الديناصورات. وأخشى أن ترثنا مادمنا نخوض الحرب معها بأسلوب طلاب المدارس ونُظار المدارس.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .