أهمية تدريس الإنسانيات فى مناهج العلوم الطبيعية - العالم يفكر - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 2:54 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أهمية تدريس الإنسانيات فى مناهج العلوم الطبيعية

نشر فى : الأربعاء 2 أكتوبر 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأربعاء 2 أكتوبر 2013 - 8:00 ص

كتب جارى جوتنج، أستاذ الفلسفة بجامعة نوتردام، مقالا نشر على الموقع الالكترونى لجريدة نيويورك تايمز بعنوان «ثغرة الانسانيات فى العلوم الطبيعية» تناول فيه نداء عالم النفس ستيفن بينكر فى دعوته مؤخرا إلى المتخصصين فى الإنسانيات بعنوان: «العلم ليس عدوكم»، حيث وجه بينكر نداء مؤثرا بإيلاء المزيد من الاهتمام بالعلم، وحثهم على اتباع النهج متعدد التخصصات؛ الذى يعتقد أنه غائب للأسف. ولا شك أن وجهة نظره صحيحة بوجه عام، فمن المتوقع أن يستفيد المتخصصون فى أى مجال من التواصل مع المجالات ذات الصلة، خارج حدود مجالهم. ولكن يبدو للكاتب أن بينكر يخطئ الجمهور الذى يتوجه إليه. ففيما يخص هذا الأمر يتعين توجيه الدعوة إلى المتخصصين فى العلوم الطبيعية.

ويتناول جوتنج الفلسفة، تخصصه الأساسى، حيث إن بينكر يشير إلى الصلات القوية مؤخرا بين فلسفة العقل والعلوم المعرفية وعلم الأعصاب. ولم يلاحظ أن فلاسفة العقل، ديفيد تشالمرز مثال بارز من بينهم، الذين يعملون فى العلوم المعرفية يكونون عادة مؤهلين تأهيلا عاليا فى هذا التخصص. ولا يكاد يكون هناك بين المتخصصين فى العلوم المعرفية وعلماء الأعصاب، من يمتلكون خلفيات قوية نسبيا فى فلسفة العقل، فمن الخطأ أن يحاول العلماء، وغالبا ما يفعلون، تفسير تأثير نتائج أبحاثهم على القضايا الفلسفية مثل الإرادة الحرة والسعادة.

وبالمثل، فالمتخصصون فى نظرية المعرفة دمجوا الدراسات النفسية التجريبية حول الإدراك والخطأ فى عملهم على «نظرية المعرفة لدى المتجنسين»، كما وظف الفلاسفة التجريبيون المهتمون بمجالات مثل نظرية المعرفة، وفلسفة العقل والأخلاق، أساليب المسح فى العلوم الاجتماعية لإثراء أفكارهم الفلسفية.

وتكون مساحة التفاوت بين معرفة الفلاسفة للعلوم ومعرفة العلماء للفلسفة، أكبر فى مجالات فلسفة الفيزياء وفلسفة البيولوجيا. وفى أوائل القرن العشرين، قدم معظم كبار فلاسفة العلوم اسهامات متقدمة فى الفيزياء. ومازال الفلاسفة الحاليون فى الفيزياء يمتلكون مستوى عاليا من التدريب المهنى فى مجال الفيزياء، حتى أن العديد منهم ينشرون فى المجلات المتخصصة فى علم الفيزياء. وبالمثل، يعتبر فلاسفة علم الأحياء ديفيد هال ضليعين فى هذا المجال.

●●●

كما انغمس مؤرخو العلم أيضا فى مجالات العلوم التى يدرسونها. وتتطلب برامج الدراسات العليا فى مجال التخصص عادة، تخصصات جامعية قوية أو حتى درجة الماجستير فى علم معين، وغالبا ما تتطلب المزيد من العمل العلمى المتقدم. وكان توماس كون، المؤرخ الأكثر تأثيرا فى العلوم من أى وقت مضى، حاصلا على درجة الدكتوراه فى الفيزياء من جامعة هارفارد. وعلى النقيض من ذلك، من النادر أن يقوم العلماء الحاليون القيام ببحث جاد فى تاريخ تخصصهم.

وكان علماء الاجتماع أيضا أكثر انفتاحا من علماء العلوم الطبيعية، على التاريخ والتخصصات الإنسانية الأخرى، وهناك العديد من الأمثلة على تفاعلات مثمرة متعددة التخصصات، فى مجال تاريخ العلوم الاجتماعية. وبرزت الجغرافيا، على وجه الخصوص، بوصفها دراسة متعددة التخصصات، حيث تجمع بين العلوم الطبيعية وكل من الدراسات العلمية والإنسانية الاجتماعية.

●●●

ويضيف الكاتب أن بينكر يلاحظ الميول المعادية للعلم، فيما يسميه «كارثة ما بعد الحداثة، مع تحدى الفكر الظلامى، والجمود الفكرى النسبى، والصواب السياسى الخانق»، ولكن الدراسات الأدبية، حصن هذه الميول، تتحرك منذ فترة طويلة فى اتجاهات أخرى، بما فى ذلك الاتجاه القوى نحو تطبيق الأفكار والأساليب العلمية. وهناك، على سبيل المثال، الدراسة التطورية والعصبية فى الأدب، ومؤخرا، استخدام الكمبيوتر فى البحث عن البيانات.

ثم، هناك سبب وجيه للاعتقاد بأن المشكلة الأكبر هى عجز العلماء عن مواكبة ما يحدث فى العلوم الإنسانية. بل، إن بينكر نفسه، ومن الواضح أنه على دراية جيدة بالعديد من مجالات العلوم الإنسانية، استفاد فى هذا المقال من الاطلاع الأعمق على الفلسفة وتاريخها.

ويستشهد الكاتب بمقال لبينكر استهله بالادعاء بأن «المفكرين العظماء من عصر العقل والتنوير كانوا من العلماء»، مشيرا، على وجه الخصوص، إلى ديكارت، وسبينوزا، وهوبز، ولوك، وهيوم، وروسو، ولايبنتز، وكانط وآدم سميث. وكان هؤلاء المفكرون، بطبيعة الحال، من المهتمين بالقضايا العلمية، ولكنهم جميعا يرون أنفسهم، حقا، فلاسفة، ويربطون الحسابات الرياضية التجريبية أو الرسمية بالحجج الفلسفية، والحقائق التاريخية، أو الملاحظات الاستقرائية. (يزعم بينكر أنهم «صاغوا أفكارهم فى غياب نظرية رسمية أو بيانات تجريبية» ويتجاهل اسهام ديكارت ولايبنتز فى الرياضيات، ومنهج سبينوزا الهندسى وبحث هيوم فى «تاريخ إنجلترا»). فقد كانوا، فى الواقع، نماذج من المفكرين الذين يتميزون باتساع المعرفة وعمقها وهم ما يفتقر إليه علماء اليوم.

ويرى الكاتب أن حدة مشكلة ضيق التخصصات لم تظهر إلا مع ظهور مصطلح «العلماء» ــ وهو مصطلح اخترع فى القرن 19 ــ الذين أصبح عملهم تقنيا إلى حد أنه كان من الصعب تجنب مخاطر الإفراط فى التخصص. وكانت فكرة بينكر عن التكامل بين التخصصات مشروعا انسانيا، من البداية ــ واستمر، كما رأينا، حتى الوقت الحاضر بفضل المتخصصين فى المجالات الإنسانية أكثر بكثير من العلماء فى العلوم الطبيعية.

ويشير الكاتب إلى ادعاء بينكر بأن العلم أظهر أن جميع الروايات الدينية التقليدية عن «أصل الحياة، والبشر، والمجتمعات ــ تم فهمها على سبيل الخطأ فى الواقع»، حيث «إننا نعلم أن البشر ينتمون إلى نوع إنسانى واحد من الأفريقيين التى طوروا الزراعة، والحكومة، والكتابة فى وقت متأخر من تاريخهم. «وهنا، يتجاهل بينكر العديد من المفكرين الدينيين، من أوجستين إلى يوحنا بولس الثانى، الذين قبلوا رواية تطور الأصول الإنسانية، مع الابقاء على أن العملية نفسها من عمل الله الخالق.

●●●

ويشير الكاتب إلى تأكيد بينكر بثقة، أنه نظرا «للقناعات غير القابلة للاعتراض» المجردة التى تقول إن «كلا منا له تقييمه لخيرنا، وأننا كائنات اجتماعية تؤثر على بعضها البعض ويمكننا التباحث حول قواعد السلوك», فمن الممكن أن يؤدى بنا العلم إلى «أخلاقيات يمكن الدفاع عنها. ويرى أن «هذه الأخلاقيات، مستمدة من تحقيق أقصى قدر من ازدهار البشر والكائنات الحية الأخرى»، ويرى الكاتب أن هذا الادعاء يصبح فى ورطة، إذا طرحت الأسئلة الفلسفية حول ما يعنيه بينكر بقوله «خيرنا» و«ازدهار البشر». كما أن الأخلاقيات النفعية سوف تفهم هذه المصطلحات من وجهة معينة، بينما تعنى آداب المهنة وجهة أخرى، وتتجه الفضيلة الأخلاقية الأرسطية فى اتجاه مختلف. وتنبع هذه الاختلافات من تضارب الأحكام المعيارية حول ما يجب أن يعتبر المثل الأعلى الأخلاقى، وهو أمر لا يمكن تحديده عن طريق الملاحظة العلمية.

 وفى الختام يشير الكاتب إلى أن بينكر يبحث عن معنى جديد لما يمكن أن يسمى العلموية. ولكن ينتهى به الأمر، على الرغم من أحسن النوايا، إلى شىء قريب من المعنى القديم: توجه علمى يقلل من قيمة إنجازات العلوم الإنسانية.

التعليقات